محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان الرقيق

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي كتب الإحسان في كل شيء، نشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد : فيا عباد الله، اتقوا الله ، واعلموا أن الله أمركم بالتقوى فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2].

أيها الأحبة في الله..

فلنقترب من شخصية قدوتنا، وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليتحقق لنا شيء من الفهم ليتحقق لنا شيء من عمق الاقتداء، محمد الإنسان الرقيق المرهف الإحساس، الذي وُلد في بيئة تعتز بالعنف والتعامل القاسي، حتى جعلت من أسماء رجالها حربًا وصعبًا وصخرًا، فكان من الطبيعي في مثل هذه البيئة الوعرة القاحلة أن تستنكر الرقة في الرجل، وتعدها ضعفًا، بينما أصبح الرفق والرقة من قيم الإسلام العظمى، وفي شخصية رسول الإسلام الأعظم، صلى الله عليه وسلم.

وقد أثارت رقة النبي صلى الله عليه وسلم بعض معاصريه من العرب، كما حدث مع الأقرع بن حابس الأعرابي الذي دخل عليه ورآه يقبِّل سبطه الحسن بن علي، فتعجب من ذلك وأخبره بأن له عشرة من الولد ما قبَّل منهم أحدًا، فيأتي تعليق النبي محمد صلى الله عليه وسلم حازمًا قويًّا واضحًا: “من لا يرحم لا يرحم، أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك» [صحيح البخاري 5998].

 ولم تكن تلك الرحمة خاصة بسبطه الذي يحبه فقط، فالشمائل الأصيلة لا تتجزأ، ولكنها تجري كنهر رائق في مجراه الإنساني بلا كدر، فكان إذا مرَّ على صبية يلعبون سلَّم عليهم وهشَّ لهم. بل إن جسامة مسئولياته وتنوع همومه لم تمنعه من مواساة طفل صغير رآه حزينًا لموت عصفوره، فيلاطفه بكنيته ويسأله: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟» [صحيح البخاري 6129].

 وظهرت تلك الرقة في تجلياتها الحربية العظمى، فبعدما استشار أصحابه في موقفهم من الأسرى، اختار أن ينحاز لقبول الفداء منهم، أو العفو عنهم مقابل أن يعلِّم كلُّ أسير منهم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، وكان يستطيع أن يقتلهم جميعًا.

 وهل عرفت البشرية قائدًا عسكريًّا منتصرًا يتحلى برقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ يلفت نظرَه مشهدُ امرأة في الأسر تبحث بلهفة عن ولدها الذي فارقها حتى عثرت عليه فألزقته ببطنها وأرضعته، ولفت نظر أصحابه إليها، واتخذ من رحمتها بولدها درسًا تربويًّا لهم؟ ووصايا النبي محمد صلى الله عليه وسلم تنبع من رقيّه الإنساني في الحرب كما في السلم سواء بسواء.

 وهل عرف التاريخ قائدًا عسكريًّا يقود جيوشه المنتصرة دائمًا بهذه الروح الإنسانية السامية؟

 فالحرب في دين محمد لا تستهدف القتل، ولا تبتغي فرض الإرادة على الآخر، ولكنها دفع إنساني لإزالة من يحول بين الناس وحقهم في الاختيار الحر لدينهم، وقيم حياتهم، ونمط سلوكهم؛ لهذا جاءت أوامره لجيوشه صريحة في النص على حرمة التعرض لغير المقاتِلة: «‏اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء‏» صحيح مسلم (1731).‏‏

وهو الحاكم الذي يؤمن أتباعه بأن طاعته طاعة لله، ومخالفتَه توجب العذاب وتجلب سخط الله، ورغم هذا تأتيه الجارية فتأخذ بيده فلا يمتنع منها حتى يقضي لها حاجتها، ويعينها على أمرها الذي أعجزها، ويمزح مع المرأة العجوز، ويلاعب الأطفال الصغار، ويحمل سبطيه فوق ظهره ويمشي بهما على أربع، ويرقّ لبكاء طفل فيرحم قلب أمه ويتجوّز في صلاته، ولا يرفع رأسه من سجوده حتى ينزل حفيده الذي اعتلاه، بعد أن يقضي حاجته النفسية من هذا الالتصاق الحاني.

وعند فتح مكة يأتيه صاحبه أبو بكر “بأبيه [المشرك] يعوده، فلما رآه رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟ قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، قال: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره ثم قال له: أسلم فأسلم” [مسند أحمد 27001 وقال الأرناءوط: حديث حسن].

 ويدخل عليه رجل فيهابه وترتعد فرائصه، فيهدئ من روعه ويسكنه، ويقول له: «هوِّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد» [سنن ابن ماجه 3312 وصححه الألباني].

وأما مع الخدم والرقيق فقد بلغ من رقته أن نهر أحد أصحابه؛ لأنه سبّ رجلاً أسود وعيَّره بسواد أمه بل نسب فعله إلى الجاهلية، وراح يطرح الفهم الراقي لطبيعة العلاقة بين الطبقات الاجتماعية المتفاوتة، ويؤكد على وجوب الإحسان إلى الفئات الاجتماعية الضعيفة ماديًّا كالخدم والعمال، ويعبّر عنهم بلفظ الأخوة، وأن الله خوَّلهم أن يكونوا تحت أيديهم، ويصدر توجيهه الإنساني الراقي: «فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» [صحيح البخاري 30]، وصدق الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى:

اللهم لك الحمد ولك الشكر كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فلم تقتصر رقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على البشر فحسب، بل تجاوزته إلى الحيوانات العجماء التي تعجز عن التعبير عن آلامها وحاجاتها، فيقص على أصحابه وأمته قصة الرجل الذي رحم كلبًا عطشان فسقاه، فغفر الله له بذلك وأدخله الجنة، ويرهبهم من إيذاء الحيوان والإضرار به، ويربط ذلك الفعل المشين بنار جهنم، فيروي لهم خبر المرأة التي دخلت النار؛ لأنها حبست هرَّة فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها لتبحث عن طعامها.

 ونهى عن تحميل الدواب فوق طاقتها، وأمر برحمتها والإحسان إليها، ونهى أصحابه عن ذبح دوابهم أمام القطيع، كما أمرهم بأن يُحسنوا إلى ذبائحهم عند الذبح ولا يكونوا قساة، فيسببوا لها عذابًا أو إيلامًا، ويخبرهم بأن هذا أمر من الله تعالى: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته» [صحيح مسلم 1995].

 ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم كان في حياته الخاصة إنسانًا عبقريًّا بكل المقاييس، فقد تزوج بالعديد من النساء اللاتي يتباينّ في المرحلة العمرية، فمنهن التي تكبره سنًّا كخديجة، والصغيرة كعائشة. والخلفية الثقافية والدينية، فمنهن من نشأت يهودية كصفية، ومن نشأت نصرانية كمارية، وغالبيتهن تربين في البيئة العربية الوثنية. كما أنهن تفاوتن في المستوى الاجتماعي والجمالي، وكان القاسم المشترك الأبرز الذي جمعهن أنهن جميعًا أحببنه حبًّا جمًّا، وتعامل معهن بإنصاف وعدل.

وفي هذه البيئة الجافة نجد محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو النبي والزعيم يعبر عن حبّه لعائشة بين أصحابه بلا حرج، فعندما سأله أحد أصحابه: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة». فقال: من الرجال؟ فقال: «أبوها» [صحيح البخاري 3662].

واللطيف أنه لم يقل: أبو بكر، وإنما نسبه إليها. وتوجه إليها ذات ليلة بقوله: «أستأذن منك لأخلو بربي». قالت: والله يا رسول الله إني لأحب قربك وأوثر هواك. [عب الإيمان للبيهقي 3837].

ولم يثبت أنه عنَّف أو ضرب أحدًا من نسائه على مدار حياته، بل كان على النقيض من ذلك تمامًا، فكان يُحسن معاشرتهن، ويتودد لهن، ويداعبهن، ويسمح لهن بحضور الجموع في الأعياد ومشاهدة رياضات القوم، بل ويدخل معهن في سباق عَدْوٍ، ويمسح دموعهن، ويضع ركبته لتصعد عليها زوجته.

 كان هذا منذ خمسة عشر قرنًا، وفي صحراء العرب الجافة الجافية، والمجتمعات المعاصرة ما زالت إلى يومنا هذا تضج بالشكوى من العنف ضد النساء، وتتنادى مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان للتواصي بالتدابير اللازمة لحمايتهن من العنف، بينما تأتي شهادة نساء النبي محمد صلى الله عليه وسلم برقته معهن، لتدمغ الإنسان المعاصر بأنه يحمل رغم حضارته المادية صفات جاهلية. تقول زوجه عائشة رضي الله عنها: “ما ضرب رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل اللَّه” [صحيح مسلم 2328].

وهنا يوصي صاحبه أبو بكر المؤمنين بأن يقتدوا بسلوك النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، فيقول لهم: (ارقبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته).

 وقد يتمكن الإنسان من التحرز بمداراة عيوبه، والتجمل بافتعال الحسن من سلوكياته أمام الناس، لكنه يعجز عن ارتداء قناع مزيف على مدار اليوم والليلة، ومع خادمه المرافق الذي يضطلع على أدق خصوصياته. لهذا تعتبر شهادة الفتى أنس بن مالك خادم النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أصدق الوثائق الدالة على رقيّ نفسية النبي ونُبل أخلاقه؛ يقول أنس رضي الله عنه: “ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟” [صحيح مسلم 2330].

هذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية، وتاجها النوراني، أليس من حقه علينا أن نعرفه أكثر، وأن نعلم يقينًا بأن عظمته لم تنبع من شخصية إنسانية مجردة، وإنما نبعت وتفردت من كونه بشرًا يُوحى إليه من الله الذي اختاره وزكاه، وعلَّمه ورباه، وأرسله رحمة للعالمين كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:28].

اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم ردنا إليك، وارحم ضعفنا بين يديك، واهدنا واهد بنا ، وأصلحنا وأصلح بنا ، واجعل أيامنا القادمة خيرًا من أيامنا الماضية، وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا، واجعل رزقنا رغدًا، وعيشنا سعادة، ولا تشمت بنا عدوًّا ولا حاسدًا، واجعلنا من أهل جنة النعيم، واحشرنا مع الأنبياء والصديقين والصالحين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.

اللهم احقن دماء المسلمين في العراق وفي الشام وفي مصر وفرِّج كربة إخواننا في سوريا وانصرهم على من بغى وطغى عليهم، وأرنا في أعدائك وأعداء الإسلام يومًا أسود يعز فيه جندك ويذل فيه أعداؤك.

اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، واجعل عمله في رضاك، أصلح له عمله، وأصلح به رعيته، واجعله هاديًا مهديًا، يحب بحبك من أحبك، ويعادي من عاداك، وارزقه البطانة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، وجنبه بطانة السوء، يا رب العالمين.

 

اللهم صلّ وسلم على الحبيب المصطفى، والرسول المجتبى ، وعلى آله وصحبه الأطهار الأخيار أجمعين.



اترك تعليقاً