مخاطر النميمة.. وسبل مواجهتها

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، موفِّق العاملين، ومثيب الطائعين، من عمل له جازاه، ومن قصده حماه، ومن توكل عليه كفاه، يعلم من عبده الرغبة في الخير فيهديه سبله، وطلبَ الرضا فيعطيه سؤله، وسؤالَ الثبات فيثبتُه حتى يوفيَه أجلَه، أنعم به من ربٍّ عظيم! من تقرب إليه شبرًا تقرب إليه ذراعًا، ومن تقرب إليه ذراعًا تقرب إليه باعًا، يرضى من عبده بالعمل، وأن يفزع إليه بالرغبة والأمل، ولله في كمال ذلك العمل أجل وقضاء قضاه وعلينا الطاعة، ورزق وفَّانا إياه فلا نتأخر عنه ولا نستقدم ساعة، فإليه المفزع في كل حين، وعليه التوكل وبه اليقين.

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوب: 119].

أيها الأحبة في الله ..

بينما الحياة صفو بين اثنين؛ أخوين، أو صديقين، أو زوجين، أو أي روحين تآلفتا وترابطتا وأحست كل منهما أنها جزء لا يتجزأ من الآخر حتى ليصدق فيهما قول الشاعر:

نحن روحان حللنا جسدًا

إذا بخنجر الغدر ينقض على ظهر الألفة بينهما؛ فتنزف دماء الحب، وتتمزق أنسجة العواطف، ويدخل الشيطان بِخَيْلِه ورَجْله ليحاول الإجهاز على مَن تبقى مِن جرحى في هذه المعركة الآثمة؛ التي يبدؤها إنسان نبذ إنسانيته، ونسي قول ربه ونهيه، ربما كان قريبًا تنكّر لرحمه، وربما كان صديقًا صفع وجه صداقته، وربما كان عدوًّا بارز خصمه بعداوته؛ ثعلب ماكر، لبس ثياب ناصح، وقد ركب حدَّ النميمة الفتاك؛ الذي مهما تلون وتزخرف فهو نقل لكلام بين طرفين لغرض الإفساد.

النميمة محرمة بإجماع المسلمين، بل هي من كبائر الذنوب، تضافرت الأدلة على التشنيع على فاعلها، وأنه محروم من دخول الجنة كما جاء في الحديث: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ» رواه البخاري ومسلم.

عباد الله .. -أجارنا الله جميعًا من جمرات النميمة اللافحة- النميمة جريمة تؤرث بوائق ومفاسد خطيرة؛ عارٌ على الناقل والسامع، حاملة على التجسُّس لمعرفة أخبار الناس وغيبتهم؛ وقد حرَّم الله تعالى التجسس والغيبة {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12]، تنبع من حسد للمفتون بينهما، والله تعالى نعى الحساد فقال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32].

ويكفي النمام أنه يعجل له العذاب في قبره كما في حديث الرجلين المعذبين الشهير الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث متفق عليه.

النمام إنسان ذو وجهين، كالحرباء يتلون بحسب الموقف الذي يريده، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من أمثال هؤلاء فقال: «تجد من شر الناس يوم القيامة، عند الله، ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» والحديث متفق عليه.

ومنها: أن يقول النمام: قال فلان فيك كذا وكذا، وهو يكرهك ولا يحبك؛ سواء أكان هذا الكلام بالقول أو بالكتابة أو بالرمز أو بالإيماء؛ يريد أن يغيِّر قلبك عليه، ومنها أن يقول لجليسه: انتبه سأحكي لكم كلامًا خطيرًا عن فلان وهو سرِّي للغاية، وأرجو أن تتحفظ على اسمي، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، ولولا محبتك ما سقت هذا الكلام، ثم يأخذ العهود والمواثيق على كتمان اسمه خوف الفضيحة وخشية اهتزاز علاقته بالغائب من الناس، ثم يبث سمومه.

ومن الأمور التي تساعد على اعتياد النميمة ثلاثة بواعث:

الأول: الجهل بحرمة النميمة، وأنها من كبائر الذنوب، وأنها تؤدي إلى شر مستطير وتفريق بين الأحبة.

الثاني: ما في النفس من غلّ وحسد. وهو ما يلزم المؤمنَ إخراجُه من قلبه، وتطهيرُ نفسه وروحه منه؛ حتى لا يفسد عليه روحه وقلبه.

الثالث: مسايرة الجلساء ومجاملتهم والتقرب إليهم، وإرادة إيقاع السوء على من ينم عليه.

ولعل سائلاً يسأل: كيف نعرف النمام؟ فنجيب بأننا نعرفه من سماته التي وصفها الله تعالى في قوله المعجز: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [المدثر: 10- 13]. تسع صفات أجمل بيانها في التالي:

 الأولى: أنه حلّاف كثير الحلف، ولا يُكثر الحلف إلا إنسان غير صادق؛ يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به، فيحلف ليداري كذبه، ويستجلب ثقة الناس.

الثانية: أنه مهين لا يحترم نفسه، ولا يحترم الناس في قوله. وآية مهانته حاجته إلى الحلف، والمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان ذا مال وجاه.

الثالثة: أنه همّاز يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم على حد سواء.

الرابعة: أنه مشاء بنميم يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم ويقطع صِلَاتهم، ويذهب بمودتهم وهو خُلق ذميم لا يقدم عليه إلا من فسد طبعه وهانت نفسه، ومشاء صفة مبالغة تعني أنه اعتاد هذا الأمر فأصبح من طبعه؛ فهو كثير المشي بالنميمة.

الخامسة: أنه منّاع للخير يمنع الخير عن نفسه وعن غيره.

السادس: أنه معتدٍ أي متجاوز للحق والعدل إطلاقًا.

السابعة: أنه أثيم يتناول المحرمات، ويرتكب المعاصي حتى انطبق عليه الوصف الثابت والملازم له أثيم.

الثامنة: أنه عتل، وهي صفة تجمع خصال القسوة والفظاظة، فهو شخصية مكروهة غير مقبولة.

التاسعة: أنه زنيم وهذه خاتمة صفاته فهو شرير يحب الإيذاء، ولا يسلم من شر لسانه أحد.

وللوقاية من أن نكون ضحايا للنميمة، فيجب علينا حين يُنمى إلينا حديثٌ ما، أن نتحقق ونتثبت ونتعرّف على مقصود الناقل، ونحاول أن نقطع الطريق أمامه إن عرفناه مسيئًا، ونختبر صدقه بمدى مقابلته بالغائب وجهًا لوجه؛ قطعًا للشائعات المغرضة التي أنّت منها البيوت والمجتمعات، واكتوى بنارها الزوجان والإخوان والأصدقاء والخلان، كل ذلك لأننا كنّا آذانًا صاغية لكل من يباعد بيننا وبين من نحب، ألم نعلم أننا أربحنا بضاعتهم وجعلنا سوقهم رائجة! والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. اللهم سدد على الخير خطانا، واكفنا شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين.


الخطبة الأخرى:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.

واعلموا أن النميمة إيذاءٌ للمؤمنين والمؤمنات، وقد قالعزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَااكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58]. 

كان أبو مسلم الخولاني إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه ثم أتته بطعام. فدخل مرة، فإذا بالبيت ليس فيه سراج، وإذا امرأته جالسة في البيت منكسة تنكت الأرض بعود، فقال لها: ما لك؟! فقالت: أنت لك منزلة من معاوية، وليس لنا خادم، فلو سألته فأعطاك خادمًا ومالاً. فقال أبو مسلم: اللهم مَن أفسد عليَّ امرأتي فعاقبه. وقد كانت جاءتها امرأة قبل ذلك فقالت لها: زوجك له منزلة عند معاوية، فلو قلت له يسأل معاوية أن يعطيه خادمًا ومالاً. وبينما تلك المرأة جالسة في بيتها إذ أنكرت بصرها، فقالت: ما لسراجكم طُفِئَ! فعرفت ذنبها وأن ما أصابها بسببه، فأقبلت على أبي مسلم تسأله أن يدعو الله- عز وجل- لها أن يرد عليها بصرها، فرحمها أبو مسلم فدعا لها الله -عز وجل- فرد لها بصرها.

ولكن ماذا نفعل إذا سمعنا أشخاصًا يسعون في النميمة؟ إن أول ما ينبغي عمله هو التفريق الدقيق بين الناصح الذي ينبه على حقيقة إنسان خادع يكذّب الناس ويضرّهم، وبين إنسان نمام إنما يريد زرع الفتنة بين الناس؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم .

وواجب السامع: عدمُ تصْديق النَّميمة؛ لأنَّ النمَّام فاسق، والفاسق مردود الشهادة، ثم يعظه وينصحه؛ قِيامًا بواجب الأمر بالمعروف والنهْي عن المنكر، وأن يَبْغض عمله لوجه الله؛ لأنه مبغوض من الله والناس، وألا يَظن سوءًا بمَن نَقل عنه الكلام، فالله يقول: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، وأن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير وغالب في العادة، وفي الحديث المتفق على صحته قال عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» أخرجه البخاري، قال الإمام الشافعي: “إذا أراد المرء الكلام فعليه أن يفكّر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم، وإن شك لم يتكلم حتى يظهر”.

وماذا يفعل الشخص الذي به صفة النميمة والعياذ بالله؟ وكيف يتخلص منها؟

على هذا التائب: أن يشغل لسانه ومجلسه بذكر الله، وبما ينفع ويتذكر أنه متعرض لسخط الله ومقته وعقابه، وليستشعر عظيم إفساده للقلوب، وخطر وشايته في تفرُّق الأحبة وهدم البيوت، وليتعظ بالآيات والأحاديث الواردة، وعليه أن يحبس لسانه عن كل سوء وفتنة، ويبدل بالسوء خيرًا، فيسعى إلى إشاعة المحبة بين المسلمين، وذكر محاسنهم، وليعلم بأنه إن حفظ لسانه كان ذلك سببًا في دخوله الجنة، وأن من تتبع عورات الناس تتبع الله عورته، وفضحه ولو في جوف بيته. وليستمر على الخير فعليه بالرفقة الصالحة التي تدله على الخير، وتكون مجالسهم مجالس خير وذكر، موقنًا بأن من يتحدث فيهم وينمّ عنهم اليوم هم خصماؤه يوم القيامة. ويتذكر الموت، وقِصَر الدنيا وقرب الأجل، وسرعة الانتقال إلى الدار الآخرة.

اللهم انصر من نصر الدين، ووفق عبادك المجاهدين الموحدين، وانصرهم على أعدائك أعداء الدين، اللهم آمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمنًا رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم لقائك، اللهم وفِّق بالحق إمامنا، وارزقه البطانة الصالحة التي تعينه على الخير وتدله عليه، واكسه بالصحة والعافية.

ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

 



اترك تعليقاً