الحمد لله أولا وآخرا، دنيا وأخرى، غيبا وشهادة، عدد أنفاس المخلوقات، وملء ما بين الأرض والسماوات، الحمد لله على كل حال، على النعمة وعلى البلاء، وأشهد ألا إله إلا ٱلله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى ٱلله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا أما بعد
فاتقوا ٱلله عباد ٱلله فإن ٱلتقوى قارب ٱلنجاة في محيط ٱلحياة، ويكفي المتقي شرفا ونجاة وغلبة وفوزا، أن الرب القادر العظيم معه: ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ} [سورة النحل:128]. {
أيها المؤمنون بالله وبكتابه وبرسوله وباليوم الآخر والملائكة وبالقدر خيره وشره، أيها المسلمون لله روحا وجسدا، حسا وقلبا، أيها المتعبدون لله بما شرع وبما قضى، يكبر البلاء ليكبر الأجر، ويكبر البلاء ليكبر الجزاء، ويكبر البلاء لما للعبد عند الله من المنزلة التي لا يبلغها إلا به، ولكنه مؤمن لا يزيده البلاء إلا ثباتا، وإن تمايلت به الريح، فإنه سرعان ما يعود شامخا بإيمانه، قد هزم الشيطان في الوقت الذي يريد أن ينال منه. يقول أعظم الناس بلاء صلى الله عليه وآله وسلم: “مثل المؤمن كمثل خامة الزرع، يفيء ورقه، من حيث أتتها الريح تكفئها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يُكفَأُ بالبلاء. ومثل الكافر كمثل الأرزة، صماء معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء” رواه البخاري.
وتأملت ألوان الابتلاء التي قد تصيب العبد في دنياه، فما وجدت أعظم مصيبة من أن يصاب المؤمن في دينه، لأنها المصيبة التي تلحق الإنسان إلى أخراه، فتوطئه مواطئ الكفرة الفجرة، وتحطه في دركاتهم، وتأملت في مصائب الدنيا فوجدت من أعظمها أن يصاب المرء بفقد حبيبه، فعلمت حينها لماذا أصيب جمع من الأنبياء العظام في أولادهم، وتأملت مصائبهم فيهم فوجدت نبي الله آدم أصيب بأن قتل أحد أبنائه ابنه الآخر، فكان أحدهما مخلدا في النار يحمل أوزار سنة القتل في البشرية، والآخر صبر فكان من أهل الجنة، فعلمت أن مصيبته فيمن بقي حيا في الدنيا إلى حين ليكون طعمة للنار أعظم من مصيبته في فقد الابن الصالح الذي قال: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سورة المائدة 5/28]، لأنه ادخره للجنة، ووجدت نبي الله نوحا قد أصيب بكفر ابنه؛ حتى بدأ يغرق بين عينيه مع الظلمة، حتى جأر إلى الله تعالى: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [سورة هود 11/45]، فعلمت أن مصيبته فيه عظيمة؛ لأنه خسره دنيا وأخرى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين} [سورة هود 11/46]،ووجدت خليل الله إبراهيم ابتلي بذبح ابنه بعد أن بلغ معه السعي وكبر وأصبح أقدر على نفعه؛ حتى {أسلما وتله للجبين}، ووجدت نبي الله يعقوب ابتلي بتغييب ابنه عنه نحوا من أربعين عاما لا يدري في أي مكان هو، حتى {َتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [سورة يوسف 12/84] ثم ابتلي بغياب ابنين آخرين، حتى جأر إلى الله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة يوسف 12/83]، ووجدت أيوب ابتلي بموت جميع أولاده ومعهم أهله وصحته وماله، حتى {نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [سورة الأنبياء 21/83].
ثم تأملت حياة حبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد ابتلي بكل صنوف الابتلاء، وكان منها أن فقد كل أولاده بنين وبنات في حياته، ولم تبق ـ بعده ـ سوى فاطمة رضي الله عنها وأرضاها فعلم بموتها على إثر موته، فماتت بعده بستة أشهر.
حتى كشف الستار سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: “قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ؛ يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة” رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
عباد الله .. حدَّث أسامة بن زيد رضي ٱلله تعالى عنهما فقال: ((أرسلتْ ابنةُ ٱلنبي صلى ٱلله عليه وسلم إليه، إن ابنا لي قبض فائتنا، فأرسل يقريء ٱلسلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول ٱلله صلى ٱلله عليه وسلم ٱلصبي ونفسه تتقعقع، قال حسبته أنه قال كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد يا رسول ٱلله ما هذا فقال هذه رحمة جعلها ٱلله في قلوب عباده وإنما يرحم ٱلله من عباده ٱلرحماء)) [رواه ٱلبخاري].
اللهم أفرغ الصبر في قلوبنا على فقد أحبابنا، واقبلهم في الشهداء الأبرار، والصالحين الأخيار واحفظ لنا من بقي منهم يا أرحم الراحمين، اللهم نسألك العافية من كل ابتلاء، ونسألك حين ينزل البلاء أن تسكب الطمأنينة والرضا بقضائك وقدرك في أفئدتنا وأفئدة أحبابنا، وتربط على قلوبنا، وأن تعفو عنا كل ما ابتدرته ألسنتنا وجوارحنا مما لا ترضاه.
الخطبة الأخرى/
الحمد لله ملء السموات والأرض، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد فاتقوا الله وأطيعوه
إن فقد الولد حرقة في القلب لا يعرفها إلا من كابدها، ولا يقيسها إلا من اكتوى بها؛ عن أنس بن مالك رضي ٱلله تعالى عنه قال: ((دخلنا مع رسول ٱلله صلى ٱلله عليه وسلم على أبي سيف ٱلقين وكان ظئرا لإبراهيم عليه ٱلسلام فأخذ رسول ٱلله صلى ٱلله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول ٱلله صلى ٱلله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد ٱلرحمن بن عوف رضي ٱلله تعالى عنه وأنت يا رسول ٱلله؟ فقال: يا بن عوف إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى فقال صلى ٱلله عليه وسلم إن ٱلعين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)). [ رواه ٱلبخاري ح (1241)].
نعم جلت المصيبة وعظمت؛ ولكن يبقى الإيمان يلطف حرارة الحزن ويلهم الموتور مكابدة كمده، يذكره بأن كل ما بين أيدينا من مال وبنين ودائع وأمانات:
وما المال والأهلون إلا ودائع
|
|
ولا بد يوما أن ترد الودائع
|
وقد ابتلي الأنبياء والصالحون بفقد أولادهم فصبروا واحتسبوا ذلك عند الله؛ قيل لأبى ذر: إنك امرؤ لا يبقى لك ولد؟ فقال: الحمد لله ٱلذى يأخذهم
من دار ٱلفناء ويدَّخرهم فى دار ٱلبقاء.
نعم فقد الولد شديد على النفس ولكن، ينبغي أن يستحضر المؤمن قوة الصبر منذ البداية فإنما الصبر في الصدمة الأولى، وكم يحتاج المرء من يذكره بذلك منذ أول وهلة؛ حتى لا يزل اللسان بما يسخط الرحمن؛ قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (( ليس مع ٱلعزاء مصيبة ، وليس مع ٱلجزع فائدة ، ٱلموت أهون ما قبله وأشد ما بعده
اذكروا فقد رسول ٱلله صلى ٱلله عليه وسلم تصغر مصيبتكم)). وكان رسول ٱلله صلى ٱلله عليه وسلم: يواسي أصحابه، عندما يتوفى لهم أولاد، ويعزِّيهم، ولذا كانت ٱلتعزية سنّة، لأنها تخفف وطأة ٱلألم بفقد ٱلصّفيّ، وتشعر ٱلمصاب بالتآخي ٱلإسلاميّ، بين أبناء هذا ٱلدين، واهتمام بعضهم ببعض، كما أن فيها دعاء وذكر مما يسلي الروح، ويريح ٱلقلب، ويزيل غمغمة عدو ٱلله ٱلشيطان ويبدد وساوسه.
وأمر علىّ بن أبى طالب ٱلأشعث بن قيس بالصبر على فقد ابنه فقال له: ((إن تحزن فقد استحقت منك ٱلرحم، وإن تصبر ففى ٱلله خلف من ابنك. إنك إن صبرت جرى عليك ٱلقدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك وأنت مأثوم)). عن صهيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) [رواه مسلم ح (2999)].
وقد وعد الله تعالى على لسان رسوله من صبر واحتسب أن يعوضه في مصيبته خيرا مما أخذ منه. فعن أم سلمة أن أبا سلمة حدثها أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به من قوله {إنا لله وإنا إليه راجعون} اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وعوضني منها إلا آجره الله عليها وعاضه خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة ذكرت الذي حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه فأجرني عليها فإذا أردت أن أقول وعضني خيرا منها قلت في نفسي أعاض خيرا من أبي سلمة ثم قلتها فعاضني الله محمدا صلى الله عليه وسلم وآجرني في مصيبتي)) رواه ابن ماجه ح (1598)].
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها ، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم ، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم ، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، سلما لأوليائك حربا على أعدائك.
اللهم فك أسرى المسلمين، وفرج عن المظلومين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيء لأمة الإسلام أمرا رشدا يعز فيه أهل طاعتك ، ويذل فيه أهل معصيتك ، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر . اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا ، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك ، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.