منزلة الإنفاق في وجوه البر

 

الخطبة الأولى:

ربنا لك الحمد على نعمك التي لا تُحصى، أشهد ألا إله إلا أنت؛ تعطي وتجود، وتُبدي وتُعيد، وأنت الغفور الودود، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، ونبيه وخليله، وصفوته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: عباد الله! تفكروا فيما أفاض الله عليكم من جزيل عطائه: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [سورة المائدة: 7].

كلما تأملت حالنا مع المال عجبت منها..!!

نتشبث به، ونحن لا نملك أن نحرسه إذا لم يحرسه الله بعينه التي لا تنام!!

ونتهالك في سبيل الوصول إلى مزيد منه، وهو مكتوب مقدَّر، لن يذهب منه شيء، ولن يزيد عليه شيء إلا بما قدَّره الله ويسَّره، {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [سورة الحديد: 23].

إذن يا قوم {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة الحديد: 10]، متى؟ {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة الحديد: 12]. النقود الذاهبة الآيبة، التي ينفقها المحسن بإخلاصٍ يعرفه ربُّه في قلبه .. أصبحت جنات وأنهارًا وحورًا وخمرًا لذة للشاربين.. نعم تتشابه مع نعم الدنيا في الأسماء.. ولكنها ليست مثلها في الحقيقة والخلق واللذة.. نعم الدنيا زائلة، كلما كثرت عذّبت صاحبها بالخوف عليها، وهمّ تنميتها، ونِعَم الجنة خالدة هانئة لا خوف فيها ولا وهن.

أيها المحب للإنفاق ولا تزال تتردد .. هنيهة هنيهة، تعال اسمع كلمات الله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[سورة البقرة: 268].  والرسول – صلى الله عليه وسلم– روى عن ربه: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! أَنْفِق، أُنْفِق عليك) رواه البخاري ومسلم.

وإذا أنفق ملك الملوك عليك فهل ستشكو من فقر أو فاقة أو حاجة؟!

الإنفاق من أعظم أسباب البركة في الرزق ومضاعفته، وإخلاف الله على العبد ما أنفقه في سبيله، {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [سورة الحديد: 11]. 

ألم تر كيف جعل الله الإنفاق على السائل والمحروم من أخصّ صفات عباد الله المحسنين، فقال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات 16-19]، وضاعف العطية للمنفقين بأعظم مما أنفقوا أضعافًا كثيرة في الدنيا والآخرة، فقال سبحانه: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [سورة الحديد: 18].

أبعد قول الله قول؟! الصدقة من أبواب الخير العظيمة، ومن أنواع الجهاد الكبيرة، بل إن الجهاد بالمال مقدَّم على الجهاد بالنفس في جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الجهاد إلا في موضع واحد؛ يقول الله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة التوبة: 41]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) رواه أبو داود وصححه الألباني.

وأحب الأعمال إلى الله كما جاء في الحديث (سرور تُدخله على مؤمن، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَيْنًا، أو تطرد عنه جوعًا)، رواه البيهقي، وحسنه الألباني.

والصدقة ترفع صاحبها حتى توصله أعلى المنازل، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا فهذا بأفضل المنازل…) رواه الترمذي وصححه الألباني.

كما أنها تدفع عن صاحبها المصائب والبلايا، وتنجّيه من الكروب والشدائد، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة) رواه الحاكم وصححه الألباني.

 أضف إلى ذلك إطفاؤها للخطايا، وتكفيرها للسيئات، ومضاعفتها عند الله إلى أضعاف كثيرة، ووقايتها من عذاب الله كما جاء في الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) رواه البخاري، وغير ذلك من الفضائل. بل هي دواء ناجع من الأمراض الحسية والنفسية؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((داووا مرضاكم بالصدقة)) رواه الطبراني وحسنه الألباني.

ومن فضائل الصدقة التي دلَّ عليها هذا الحديث القدسي: مباركتها للمال، وإخلاف الله على صاحبها بما هو أنفع له وأكثر وأطيب، وقد وعد سبحانه في كتابه بالإخلاف على من أنفق -والله لا يخلف الميعاد- قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}(سبأ 39)، أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فإنه يُخلِفه عليكم في الدنيا بالبدَل، وفي الآخرة بحسن الجزاء والثواب، فأكَّد هذا الوعد بثلاث مؤكدات تدل على مزيد العناية بتحقيقه، ثم أتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لبيان أن ما يُخْلِفه على العبد أفضل مما ينفقه العبد في سبيل الله.

فالعبد المؤمن حريص على أن يبذل من كريم ماله وطيّبه؛ لأنه يبتغي به وجه الله الطيّب؛ يقول الله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [سورة آل عمران: 92].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الصدقة بوابة للرزق، ومن أسباب سعته واستمراره وزيادته، يقول تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}(إبراهيم: 7)، والصدقة غايةٌ في الشكر .

يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (.. وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرةً …) رواه أحمد وحسنه الأرناءوط، ويقول: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا) أخرجاه في الصحيحين.

وفي مقابل ذلك جاءت نصوص عديدة تحاور دخائل النفس ووساوسها؛ حين تشوّش على المقْدِم عليها فتوهمه بأن الصدقة منقصة للمال، جالبة للفقر، فيتراجع عن خير عظيم، وفضل كبير، وحفظ من الله تعالى، وبركة في الرزق والأجل، ليقع في الشح والبخل وهما سبب حرمان البركة وتضييق الرزق، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، ومن تواضع لله رفعه..) رواه الترمذي وصححه الألباني.

إن الواقع والتجربة المشاهدة والمحسوسة، تثبت أن المعونة تأتي من الله على قدر المئونة، وأن رزق العبد يأتيه بقدر عطيته ونفقته، فمن أَكثر أُكثر له، ومن أقل أُقِل له، ومن أمسك أُمسِك عليه، وهو أمر مجرّب محسوس، والقضية ترتبط بإيمان العبد ويقينه بما عند الله، قال الحسن البصري رحمه الله: “من أيقن بالخُلْف جاد بالعطية”.

الشيخ الداعية الراحل علي الطنطاوي رحمه الله حيث يقول: ((لا تحسبوا أن الذي تعطونه يذهب هدرًا؛ إن الله يخلفه في الدنيا قبل الآخرة، وأنا لا أحب أن أسوق لكم الأمثلة، فإن كل واحد منكم يحفظ مما رأى أو سمع كثيرًا منها، إنما أسوق لكم مثلاً واحدًا: قصة الشيخ سليم المسوتي رحمه الله، وقد كان شيخ أبي وكان على فقره لا يرد سائلاً قط، ولطالما لبس الجبة أو الفروة فلقي برادنًا يرتجف فنزعها فدفعها إليه وعاد إلى البيت بالإزار، وطالما أخذ السفرة من أمام عياله فأعطاها السائل، وكان يومًا في رمضان، وقد وضعت المائدة انتظارًا للمدفع، فجاء سائل يقسم أنه وعياله بلا طعام، فابتغى الشيخ غفلة من امرأته، وفتح له وأعطاه الطعام كله؟ فلما رأت ذلك امرأته ولولت عليه وصاحت، وأقسمت أنها لا تقعد عنده، وهو ساكت، فلم تمر نصف ساعة حتى قرع الباب، وجاء من يحمل أطباقًا فيها ألوانًا من الطعام والحلوى والفاكهة، فسألوا: ما الخبر؟ وإذا الخبر أن [الأمير] كان قد دعا بعض الكبار فاعتذروا فغضب وحلف ألا يأكل من الطعام وأمر بحمله كله إلى دار الشيخ سليم المسوتي [صاحب الصدقة] قال: أرأيت يا امرأة؟

وروى الشيخ الطنطاوي: قصة امرأة كان ولدهامسافرًا، قعدت يومًا تأكل وليس أمامها إلا لقمة إدام وقطعة خبز، فجاء سائل فمنعت لقمتها عن فمها وأعطته، وباتت جائعة، فلما جاء الولد من سفره جعل يحدثها بما رأى [في سفره] قال: ومن أعجب ما مر بي أنه لحقني أسد في الطريق، وكنت وحدي فهربت منه، فوثب عليَّ وما شعرت إلا وقد صرت في فمه، وإذا برجل عليه ثياب بيض يظهر أمامي فيخلّصني منه، ويقول: لقمة بلقمة، ولم أفهم مراده . فسألته أمه عن وقت هذا الحادث، وإذا هو في اليوم الذي تصدقت فيه على الفقير، نزعت اللقمة من فمها لتتصدق بها، فنزع ولدها من فم الأسد) انتهى كلامه رحمه الله.

عباد الله ..

إنه ينبغي ألا يقف المسلم موقف المنفق والمتصدق فقط، كلا، بل موقف المنفق والمتصدق والدالّ على الخير، لنحظى جميعًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ) رواه الترمذي وصححه الألباني.

ونبتعد كل البعد عن التهديد والوعيد الذي هدّد به من لا يحض على طعام المسكين، وهو من سمات أهل النار كما ورد في أكثر من آية من كتاب الله.

 ولنحذر كل الحذر من أن نُبطل صدقاتنا بالمنّ والأذى، بل نبذلها بطلاقة وجه، وبشاشة محيا، ولا تنتظر من مخلوق جزاءً ولا شكورًا.

أيها الأجواد .. أيتها الكريمات

ولأن هذا المال هو في الحقيقة مال الله، استخلف عباده فيه لينظر كيف يعملون، فليس للإنسان الحق المطلق في أن يتصرف فيه كيف يشاء، بل إن تصرفاته ينبغي أن تكون مضبوطة بضوابط الشريعة، محكومة بأوامرها ونواهيها، فيُبْذَل حيث يُطْلَب البذل، ويُمْسَك حيث يجب الإمساك، والإمساك حيث يجب البذل بُخْلٌ وتقتير، والبذل حيث يجب الإمساك إسراف وتبذير، وكلاهما مذموم، وبينهما وسط محمود وهو الكرم والجود، وهو الذي أمر الله به نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}( الإسراء: 29)، وامتدح به عباده المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}(الفرقان: 67)، قال ابن عباس: “في غير إسراف ولا تقتير”، وسُئل ابن مسعود عن التبذير فقال: “إنفاق المال في غير حقه”.

فالجود في ميزان الشرع  -كما قال ابن حجر -: “إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعمّ من الصدقة”، وهو وسط بين الإسراف والإقتار، وبين البسط والقبض، وله مجالاته المشروعة، ولذا فإن بذل المال في غير موضعه قد لا يكون كرمًا، ومما أثر عن مجاهد قوله: “إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد، ولا يتأول هذه الآية: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}(سبأ 39)، فإن الرزق مقسوم، لعل رزقه قليل، وهو ينفق نفقة الموَسَّع عليه”.

اللهم وسع علينا آفاق الرزق، وبارك لنا فيه، وارزقنا القناعة بما قسم لنا منه، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم تقبل منا صلاتنا ودعاءنا وصدقاتنا وكل أعمالنا على تقصير منا، إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم أعز دينك وأعل كلمتك، وانصر إخواننا المجاهدين في مكان، وأيدهم بتأييدك، وارفع عنهم البؤس والفاقة، واهدنا لنصرتهم والدعاء لهم، اللهم أيد بالحق إمامنا واجعله هاديًا مهديًا، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.  

ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 



اترك تعليقاً