منهج النبي في تغيير الخطأ

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار.

أما بعد:عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله وطاعته، استجابةً لأمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: 102].

أيها الإخوة المؤمنون: ((كلنا ذوو خطأ))، حقيقة لا بد أن نواجه أنفسنا بها في كل أحوالنا، وفي كل تعاملنا مع الآخرين، وكما نريد أن يعاملنا الآخرون حين نخطئ، ينبغي أن نعاملهم حين يخطئون، أو أفضل من ذلك، بناء على قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} [سورة النساء: 86].

ولأن ظاهرة خطيرة تكاثرت في المجتمع، وأصبحت تشكّل تهديدًا لعلاقاته الأسرية، وعلاقاته الاجتماعية، بل والعلمية، وهي ظاهرة البحث عن أخطاء الناس، والحكم عليهم، لإصدار حكم فوري عليهم، بدلاً من البحث في سبل العلاج، والنصح الصادق.

ولا شك أن سبيل الإصلاح لا يؤخذ إلا من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاءت هذه القواعد التي تحاول أن تستقي المنهج النبوي في إصلاح الخطأ:

فأولها المسارعة إلى تصحيح الخطأ وعدم إهماله: فلا يعني حرصنا على بقاء الألفة بيننا وبين المخطئ أن نتركه يخطئ، بل إن من واجبنا تجاهه أن نسارع إلى تنبيهه، ومسارعته صلى الله عليه وسلم إلى تصحيح أخطاء الناس واضحة في مناسبات كثيرة: كقصة المسيء صلاته حين نبّهه، فعلم أنه لا يجيد إلا ما رأى منه، ففصل له صفتها، عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد، وقال ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها)) [رواه البخاري ح (724)].

وقصة أسامة مع المخزومية، فعن عائشة رضي الله عنها ((أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد؛ حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) [رواه البخاري ح (3288)].

وعدم المبادرة إلى تصحيح الأخطاء قد يفوّت المصلحة، ويضيّع الفائدة، وربما تذهب الفرصة، وتضيع المناسبة، ويبرد الحدث، ويضعف التأثير، وربما فهم المخطئ الإقرار ممن ينتظر من مثله أن يبين الخطأ.    

والقاعدة الثانية في معالجة الخطأ بيان الحكم للمخطئ وربما من حوله كذلك ممن رأى الخطأ ليستفيد من الواقعة:فعن جَرْهَدٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ فَخِذِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (غَطِّ فَخِذَكَ فَإِنَّهَا مِنَ الْعَوْرَةِ)، رواه الترمذي وصححه الألباني. فإن تعليل التقويم احترام لعقول الموجهين والمستمعين، ويجعل له فائدة دائمة للمخطئ ومن حوله.    

والثالثة ردّ المخطئين إلى الشرع وتذكيرهم بالمبدأ الذي خالفوه: ففي غمرة الخطأ وملابسات الحادث يغيب المبدأ الشرعي عن الأذهان، ويضيع في المعمعة، فيكون في إعادة إعلان المبدأ والجهر بالقاعدة الشرعية ردّ لمن أخطأ، وإيقاظ من الغفلة التي حصلت. عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح، قال إسماعيل يعني بالعالية، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبله قال: بأبي أنت وأمي طبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رِسْلك، فلما تكلم أبو بكر، جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال ألا من كان يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}  وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}، فنشج الناس يبكون …)) [رواه البخاري ح (3467)]..

أسأل الله تعالى أن يبصّرنا بدينه، ويغفر لنا خطايانا في حقه وفي حق خلقه إنه سميع مجيب. توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله ولي الحمد وأهله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن المؤمن لا يزال في مأمن ما دام يرعى الله تعالى في كل أمور حياته، ومن ذلك حديثنا اليوم حول قواعد التعامل مع الخطأ.

القاعدة الرابعة تصحيح التصور الذي حصل الخطأ نتيجةً لاختلاله: فإن الأخطاء عموما تنشأ من خلل في التصورات، فإذا صلح التصور قلّت الأخطاء كثيرًا، كما فعل مع الثلاثة الذين أرادوا التشديد على أنفسهم في العبادة والتبتل؛ نتيجة لاختلال التصور عندهم حول مفهوم مقدار العبادة، فإنه بادر بإيضاح سنته الوسطى لهم ولغيرهم، فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى قال: ((جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) [رواه البخاري ح (4776)].

والقاعدة الخامسة: معالجة الخطأ بالموعظة وتكرار التخويف والتذكير بقدرة الله عز وجل، وهو ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث؛ كتحذيره من شهادة الزور في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئًا فقال: ألا وقول الزور، قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)) [رواه صحيح البخاري ح (2511)].

والقاعدة السادسة: إظهار الرحمة بالمخطئ: وهذا يكون في حال من يستحقّ، ممن عَظُم ندمه، واشتد أسفه، وظهرت توبته، كما حدث مع الجهنية رضي الله عنها، عن عمران بن حصين، ((أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى فقالت: يا نبي الله أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال: أحسن إليها فإذا وضعت فائتني بها ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرُجمت، ثم صلى عليها، فقال له عمر: تُصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟! فقال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)) [رواه مسلم ح (1696)].

فقد رحمها، وتركها تذهب حتى ولدت، ثم تركها حتى فطمت ولدها، وحين أقام عليها الحد، أثنى عليها رحمها الله ورضي عنها.

والسابعة : عدم التسرع في التخطئة وعدم التسرع في العقوبة: فإن على طالب العلم أن يستعجل بتخطئة من حكى قولاً يخالف ما يعرفه إلا بعد التثبت فربما يكون ذلك القول قولاً معتبرًا من أقوال أهل العلم، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا: ((لما رجع من الأحزاب لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي؛ لم يرد منا ذلك، فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنّف واحدًا منهم)) [رواه البخاري ح (904)].

والثامنة: الهدوء في التعامل مع المخطئ: وخصوصًا عندما يؤدي الإنكار عليه بقوة، والاشتداد في نهيه إلى توسيع نطاق المفسدة، ويمكن أن نتبين ذلك من خلال مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لخطأ الأعرابي الذي بال في المسجد، عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة ((قال قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذَنوبًا من ماء، فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين))[رواه البخاري ح (217)]. فإن الأعرابي بفطرته توجه إلى الله داعيًا: اللهم اغفر لي ومحمدًا ولا تغفر معنا لأحد.

والقاعدة الثامنة: بيان خطورة الخطأ، ووجه المخالفة فيه وهو ما مر في القصة السابقة.

هذا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شرّ أنفسنا ويجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشرّ، وأن يهدينا ويهدي بنا إنه سميع قريب مجيب وهو نعم المولى ونعم النصير والهادي إلى سواء السبيل.

ثم صلوا وسلموا على معلم الناس الخير ومربي البشرية على منهج الله القويم سيدنا ونبينا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب: 56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك  ومنك يا أكرم الأكرمين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفّقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسرى المسلمين، وفرّج عن المظلومين، واقض الدين عن المدينين، واهدِ ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 



اترك تعليقاً