من يتحدى الله؟!
الخطبة الأولى:
الحمد لله {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ، وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله يا أهل الحرم اتقوا الله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم، وما اختصكم به ـ عز وجل ـ فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].
إن الله تعالى كريم، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ، وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26]، وهذا الفرح ينبغي أن يكون دافعًا لعمل الخيرات، والالتزام بأوامر ربنا ونواهيه، وطلب رضاه عنا، وأن يبارك لنا في أعطانا وما منحنا، ويستلزم ذلك الحفاظ على مكتسبات الأمن من (دين ونفس وعقل وعِرض ومال)، فننميها، ونحميها، ونطورها ونفديها، ونصونها ولا نسمح لأحدٍ أن يقترب من حماها، في وِحدة واحدة، وقيادة راشدة، عندها نكون جديرين بهذه النعم، قال ربنا سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، وهو تصريح لا تلميح، وقرار رباني لا راد له أبدًا، فإن هذا الفرح بالنعمة قد يتحول إلى طغيان وجحود، واستكبار وأمن لمكر الله، {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون} [الأعراف: 99]، وقد ضرب الله لنا الأمثال فلا عذر لنا ولا لغيرنا، فقال عزَّ من قائل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، والطغيان ألوان، فقد ضرب الله لنا مثلاً ببغي فرعون وتألهه وتسلطه على شعبه، وضرب مثلاً بقارون وهو رجل من قوم موسى فبغى عليهم، ليقول الملك الجبار عز وجل: إن الطغيان ليس محصورًا في حاكم كافر دموي ظالم وحسب، بل قد يكون في فرد من الناس؛ بل قد يكون مسلمًا، آتاه الله نعمة عظيمة يتمناها الآخرون، ولكنه قابلها بالجحود والنكران، وسخّرها فيما لا يرضي من وهبها له، وظن أنه قادر عليها، مسكين ابن آدم، يظن أن ما أُوتي من مال أو جاه أو جمال أو ولد أو حتى علم وذكاء وإبداع.. قد مُكِّن منه حتى إنه لا يمكن أن ينتزع منه، {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7-6]، وما يدري من يتحدى؟ في لحظة واحدة يجد نفسه وحيدًا لا يملك أن يتصرف في مال ولا ولد ولا جاه ولا حتى قلبه الذي بين جنبيه؛ أليس الله جل وعلا يحول بين المرء وقلبه؟!! {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } [العلق: 18 – 21].
قد يحسُّ بنعمة العلم، فينكر منعمها، ويجحد مصدرها، فيسلبه الله منه، ويعطيه من يستحقه، وقد يتيه الغني بما آتاه الله من مال، فإذا به يحتقر الناس، ويهينهم، فيأخذه الله منه أخذ عزيز مقتدر، ويعطيه من يشاء، ممن يُصلح حالهم المال.
وقد يطغى موظف ما مدير أو رئيس؛ حين يرى أنه ذو منصب عظيم، والناس يأتمرون بإشارته، حتى يظن أنه لا راد لأمره، فتثقل على لسانه كلمة: (إن شاء الله)، لما يرى من قدرته على الأمر، فينزع الله منه تلك الولاية، أو يحجزه عن ذلك العمل، ويظل مندهشًا مما حصل له، وقد يتهم فلانًا وفلانًا!!
بل قد يقول مثل ما قال فرعون إذا كان ذا جاه عريض: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، أو يقول ما قاله قارون إذا كان ذا مال واسع: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78].
وقد يقول ما قال من صنع سفينة عملاقة فسماها: تايتنك، ويعني اسمها بالعربية: جبار، عظيم الحجم، عظيم القوة، هائل، ولم يكتفِ صانعُها بهذا الاسم المننتفخ تبخترًا وتيهًا وتجبرًا، بل قال أندريوس ثوماس، عندما سأله صحفي عن قوة وأمان السفينة، وبلهجة قوية: “Not even God himself could sink this ship.” وذلك في آخر يوم من مايو عام 1911:
ما ترجمته: (حتى الله لن يستطيع إغراقها)، فإذا بالسفينة ـ وفي أولى رحلاتها ـ تصطدم بجبل جليدي فاجأها وهي تسير بأقصى سرعتها.. لم يسبق أن شهدت بحار العالم مثل هذا الحادث وبنفس الكيفية التي تم بها، لقد فات المحللين للحادث أنه لا يمكن لأحد من البشر أن يتحدى قدرة الله. لقد ظن ركابها الأثرياء بأنهم في مأمن تام من الموت، ولكن: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78].
وقد يقول ما قاله تانسريدو نيفيز رئيس البرازيل خلال حملته الانتخابية قال: (إذا حصلت على 500.000.000 صوت حتى الله لن يستطيع إزاحتي)، وقد حصل على الأصوات فعلا، ولكنه مرض قبل تنصيبه، وأخذه الله بعدها مباشرة.
وقد يقول ما قاله كازوزا المطرب والشاعر البرازيلي كذلك، خلال حفلة في ريودي جانيريو كان يدخن سيجارة، ثم أخرج الدخان في الهواء وقال (إلهي، هذه لك).. يسخر من الجبار فوق عرشه!! فمات في عز شبابه بمرض الإيدز وفي خاتمة بشعة جدًّا.
وهو ما حدث للمركبة الفضائية تشالنجر والذي معناه: التحدي، يوم الثلاثاء في الثامن عشر من جمادى الأولى عام ألف وأربعمائة وستة للهجرة، وذلك بعد إطلاقها بثلاث وسبعين ثانية فقط، لقد حدث الانفجار الرهيب، وتناثرت أشلاء المكوك وسقط في المحيط الأطلسي، وعلى متنه سبعة رواد للفضاء، كانوا يظنون أنهم لا بد ناجحون، وأراد الله غير ذلك، ولا راد لقضائه، ولا غالب إلا الله جل جل جلاله.
عباد الله توبوا إلى الله واستغفروه، وأحسنوا التوكل عليه بيده الخير إنه على كل شيء قدير.
الخطبة الأخرى:
الحمد لله أن جعلنا من خير الأمم، وارتضى لنا أكمل دين، وأنعم علينا برحمته وكرمه، وحلمه وفضله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، بعث بالحنيفية السمحة، فكان أكرم معلم عرفته البشرية، وأفضل رسول، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه.
لا غالب إلا الله جل جلاله، وحين يعلم المسلم علم اليقين هذه الحقيقة يحسن التوكل عليه، ويعلم بأن كل ما بين يديه وديعة لا يدري متى يردها إلى مودعها، بل إنه يحب ربه تعالى فيعبده بحب، ويخشاه فلا يغتر بنعمه، ويرجوه حتى آخر لحظة من لحظات حياته، ويتوقى ظلم نفسه وظلم الناس؛ لأنه يعلم بأنه لا بد من وقفة سيُسأل فيها عن كل أمر مَرَّ به في حياته.
إن يتحدثون على طغيان الظلمة من الحكام، وينسون الطغيان الفردي، الذي قد يكون سببًا لطغيان الحاكم وجبروته، فقد تصدر كلمة ما من أحدهم لا يلقي لها بالاً، تهوي به في النار سبعين خريفًا، لقد قالت المطربة مارلين مونرو عندما زارها أحد الواعظين في حفلة لها: (إن إلهي قد أرسلني إليك)، فردت: (لا أحتاج إلى الله هذا)، بعد أسبوع ماتت في شقتها، وأما بون سكوت المطرب الغربي، فقد كان يقول في إحدى أغانيه خلال عام 1979: (لا توقفني يا ألله، أنا ذاهب إلى الأسفل، ذاهب إلى الجحيم في الطريق السريع)، وفي العام التالي وُجد ميتًا مختنقًا بقيئه.
وفي منطقة كامبينا في البرازيل في 2005م، مجموعة أصدقاء سكارى ذهبوا ليأخذوا صديقة لهم، وأمها كانت قلقة منهم، فقالت لها وهي ممسكة بيديها: (اذهبي، والله معك ليحميك) فردت البنت (إذا أراد الله أن يسافر معنا فليس له إلا صندوق السيارة، لأنَّ داخل السيارة ممتلئ)، بعد عدة ساعات وصل خبر بأنهم تعرضوا إلى حادث مريع جدًّا لدرجة أن الشرطة لم تتعرف على نوع السيارة … وكل من كانوا قد ماتوا، المذهل أن صندوق السيارة لم يمس بأذى، حتى إن الشرطة مذهولون من هذا، وقالوا: (مستحيل إن الصندوق الذي بالسيارة لم يتأذ)، وما زاد ذهولهم أكثر كرتون بيض بصندوق السيارة لم يتكسر!!
صحفية ومضيفة قالت: (إن القرآن والذي يحتوي على كلام الله هو أسوأ كتاب) في السادس من عام ألفين وستة وُجدت محترقة في سيارتها.. من يغلب الله؟! من يتحدَّ رب الأرباب؟
وأختم بهذه القصة.. جلس رجلان قد ذهب بصرهما على طريق أم جعفر زبيدة العباسية لمعرفتهما بكرمها. فكان أحدهما يقول: اللهم ارزقني من فضلك.. وكان الآخر يقول: اللهم ارزقني من فضل أم جعفر. وكانت أم جعفر تعلم ذلك منهما وتسمع، فكانت ترسل لمن طلب فضل الله درهمين، ولمن طلب فضلها دجاجة مشوية في جوفها عشرة دنانير. وكان صاحب الدجاجة يبيع دجاجته لصاحب الدرهمين، بدرهمين كل يوم، وهو لا يعلم ما في جوفها من دنانير. وأقام على ذلك عشرة أيام متوالية، ثم أقبلت أم جعفر عليهما، وقالت لطالب فضلها: أما أغناك فضلنا؟ قال: وما هو؟
قالت مائة دينار في عشرة أيام، قال: لا، بل دجاجة كنت أبيعها لصاحبي بدرهمين.
فقالت: هذا طلبَ من فضلنا فحرمه الله، وذاك طلب من فضل الله فأعطاه الله وأغناه.
يقول الشيخ عبد الحميد كشك يرحمه الله: من اعتمد على غير الله ذلَّ، ومن اعتمد على غير الله قلَّ. ومن اعتمد على غير الله ضلَّ. ومن اعتمد على غير الله ملَّ. ومن اعتمد على الله فلا ذلّ ولا قلّ ولا ضلّ ولا ملّ.
اللهم اجعلنا بك مؤمنين، عليك متوكلين، لك محبين، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك واهزم المشركين، اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل دائرة السوء عليه، اللهم حرّر المسجد الأقصى الشريف من أيدي اليهود الغاصبين، وأرجعه آمنًا مطمئنًا رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم عليك بأعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين الذين يحاربون دينك، ويؤذون عبادك، اللهم مزّق شملهم، وفرِّق صفهم، وامحق أموالهم، وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم احفظ علينا أمننا، وبارك لنا في رزقنا، وأصلح لنا أزواجنا وذرياتنا ونفوسنا، اللهم احفظ ولي أمرنا ووفقه لنصرة الإسلام والمسلمين ولكل ما فيه صلاح الأمة ونصرة الدين، وأتم عليه عافيته، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه على الخير وتدله عليه.
اللهم إنا نسألك أن تحفظ عباد المسلمين، وأن تنزل السكينة عليهم، وأن تحفظ دماءهم وأموالهم وأعراضهم، ودينهم، اللهم اجعل ولايتهم فيمن خافك واتبع رضاك، اللهم اكبت عدوهم، ولا تسلط عليهم من لا يخافك فيهم ولا يرحمهم، اللهم اجعل عاقبتهم خيرًا يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ووالدينا من أهل جنة النعيم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، وتب علينا إنك أنت التواب الحليم، وصلوا وسلموا على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.