مواعظ من كلام السلف

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

    أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2].

أيها الأحبة في الله: تحتاج النفوس إلى الوعظ، كما يحتاج الزرع إلى الماء، وكلما ابتعدت عنه ازداد جفافها، وضعفت عن حب الخيرات، والأنس وبالطاعات.

فلنأخذ في روضات السلف الصالح، نقطف وردة من هنا، وجمرة من هناك، فما أحوجنا للعطر الذي لا يفوح إلا فوق وهج من الجمر.

قال ابن الجوزي رحمه الله: “أعظم المعاقبة ألا يحسَّ المعَاقَبُ بالعقوبة، وأشد من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة! كالفرح بالمال الحرام، والتمكُّن من الذنوب؛ ومَن هذه حالُه لا يفوز بطاعةٍ.

وإني تدبَّرت أحوال أكثر العلماء والمتزهِّدين فرأيتهم في عقوباتٍ لا يحسُّون بها، ومعظمها من قِبَل طلبهم للرياسة. فالعالم منهم يغضب إن رُدَّ عليه خطؤُهُ، والواعظ متصنِّعٌ بوعظه! والمتزهِّدُ منافقٌ أو مراءٍ. فأوَّلُ عقوباتهم إعراضهم عن الحق؛ اشتغالاً بالخلق. ومن خفيِّ عقوباتهم: سلب حلاوة المناجاة ولذَّة التعبُّد. إلاَّ رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمنات؛ يحفظ الله بهم الأرض؛ بواطنهم كظواهرهم؛ بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم؛ بل أحلى، وهممهم عند الثريَّا؛ بل أعلى، إنْ عُرِفُوا تنكَّروا، وإن رُئيت لهم كرامةٌ أنكروا، فالناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلواتهم! تحبُّهم بقاع الأرض، وتفرحُ بهم أملاك السماء. نسألُ الله – عز وجل – التوفيق لاتباعهم، وأن يجعلنا من أتباعهم”. آمين.

الناس في غفلةٍ والمـوت يوقظهم        وما يفيقون حتى ينفـد العمر

يشيِّعـون أهاليهـم بحمعـهم        وينظرون إلى ما فيه قـد قُبِروا

ويرجعـون إلى أحلام غفلتهم             كأنهم ما رأوا شيئاً ولا نظـروا

وقال الإمام ابن حزم رحمه الله بواسع رحماته: “من امتحن بالعجب فليفكِّر في عيوبه. فإن أُعجِبَ بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة. فإن خَفيت عليه عيوبُه جملة؛ حتى يظن أنه لا عيب فيه فليعلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه أتم الناس نقصًا، وأعظمهم عيوبًا، وأضعفهم تمييزًا. وأول ذلك أنه ضعيف العقل جاهل، ولا عيب أشد من هذين!؛ لأن العاقل هو من ميَّز عيوب نفسه؛ فغالبها، وسعى في قمعها. والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه؛ إما لقلة علمه وتمييزه وضعف فكرته، وإما لأنه يقدر أن عيوبه خصال، وهذا أشد عيب في الأرض. وفي الناس كثير يفخرون بالزنا واللياطة والسرقة والظلم؛ فيُعجب بتأتي هذه النحوس له، وبقوته على هذه المخازي.

واعلم يقيناً ألا يسلم إنسي من نقص؛ حاشا الأنبياء صلوات الله عليهم . فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط، وصار من السخف والضعة والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم؛ بحيث لا يتخلف عنه متخلف من الأرذال، وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة! فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه، والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها، وعن عيوب غيره التي لا تضرَّه لا في الدنيا ولا في الآخرة. وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة إلا الاتعاظ بما يسمع المرء منها؛ فيجتنبها، ويسعى في إزالة ما فيه منها، بحول الله تعالى وقوته.

وأما النطق بعيوب الناس فعيب كبير، لا يسوغ أصلاً، والواجب اجتنابه؛ إلا في نصيحة من يتوقَّع عليه الأذى بمداخلة المعيب، أو على سبيل تبكيت المعجب فقط في وجهه، لا خلف ظهره، ثم يقول للمعجب: ارجع إلى نفسك، فإذا ميَّزْتَ عيوبها، فقد داويت عجبك.

ولا تمثل بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منها؛ فتستسهل الرذائل، وتكون مقلداً لأهل الشر، وقد ذُمَّ تقليد أهل الخير؛ فكيف تقليد أهل الشر؟! لكن مثِّل بين نفسك وبين من هو أفضل منك؛ فحينئذ يتلف عجبك، وتفيق من هذا الداء القبيح، الذي يولد عليك الاستخفاف بالناس!! وفيهم بلا شك من هو خير منك!! فإذا استخففت بهم بغير حق استخفوا بك بحق! ؛ لأن الله تعالى يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}. فتولد على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك، بل على الحقيقة مع مقت الله عز وجل، وطمس ما فيك من فضيلة.

… واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم يجدون القراءة والإكباب على الدروس والطلب، ثم لا يرزقون منه حظًّا!؟! فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيرُه فوقَه، فصح أنه موهبة من الله تعالى، فأي مكان للعجب ها هنا؟!!

ما هذا إلا موضع تواضع، وشكر لله تعالى، واستزادة من نعمه واستعاذة من سلبها. ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلم، ثم من أصناف علمك الذي تختص به، فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم من ذلك، فاجعل مكان العجب استنقاصًا لنفسك، واستقصارًا لها فهو أولى.

     لا تفكِّـر في همـومٍ سلفا         وتفكَّر في ذنوبٍ سلفت

 واترك الآمال واطلب توبةً           أدرك النفس وإلاَّ تلفت!

وأحسن منه قول الله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله الذي أحيا قلوب عباده بذكره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2].

نقل ابن القيم -رحمه الله- عن شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه- أنه كان إذا أُثنى عليه في وجهه يقول: “والله إني إلى الآن أجدِّد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعدُ إسلاماً جيداً”، وكان كثيرًا ما ينشد:

  أنا الفقير إلى رب البريـَّات            أنا المسيكين في مجموع حالاتي

 أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي               والخير إن يأتنا من عنده ياتي

   لا أستطيع لنفسي جلب منفعة              ولا عن النفس لي دفع المضراتِ

    وليس لي دونه مولى يدبـرني         ولا شفيع إذا حاطت خطيئآتي

  إلا بإذن من الرحمن خالقـنا            إلى الشفيع كما جاءت بآياتِ

 وهذه الحال حالُ الخلقِ أجمعهم              وكلهـم عنـده عبدٌ له آتي

       وقال ابن سيرين -رحمه الله-: “إني لأعرف الذنب الذي حُمل عليَّ به الدين ما هو؟!، قلت لرجل من أربعين سنة: يا مفلس”. فحدّث به أبا سليمان الداراني؛ فقال: قلَّتْ ذنوبهم، فعرفوا من أين يُؤْتَون، وكثرت ذنوبي وذنوبك فليس ندري من أين نُؤتى؟!

وعن أبي عوانة قال: “رأيت محمد بن سيرين في السوق؛ فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى.

قال ابن الجوزي-رحمه الله-: “ينبغي لكل ذي لبٍّ وفطنةٍ أن يحذر عواقب المعاصي؛ فإنه ليس بين الآدمي وبين الله تعالى قرابةٌ ولا رحم، وإنما هو قائمٌ بالقسط، حاكمٌ بالعدل.

وإن كان حلمه يسع الذنوب؛ إلاَّ أنه إذا شاء عفا؛ فعفا كلَّ كثيف من الذنوب، وإذا شاء أخذ، وأخذ باليسير؛ فالحذر .. الحذر. ولقد رأيت أقواماً من المترفين كانوا يتقلَّبون في الظلم والمعاصي الباطنة والظاهرة؛ فتعبوا من حيث لم يحتسبوا؛ فقلعت أصولهم، ونُقِضَ ما بَنَوْا من قواعد أحكموها لذراريهم. وما كان ذلك إلاَّ أنهم أهملوا جانب الحق عز وجل، وظنوا أنَّ ما يفعلونه من خيرٍ يقاوم ما يجري من شرٍّ؛ فمالت سفينة ظنونهم؛ فدخلها من ماء الكيد ما أغرقهم. {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].

اللهم هذه نواصينا الخاطئة بين يديك، فاغفر لها، وخذ بها إليها، فإنا لا نفر منك إلا إليك.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك، واحفظ إمامنا بحفظك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة، وجنبه بطانة السوء.

اللهم إنا نجعلك في نحور من يقتل إخواننا، ويحرق عليهم قلوبنا، في العراق وفي سوريا وفي اليمن، وفي ليبيا، وفي كل مكان لك فيه مؤمن بك مسلم لك، وخلص الأسرى المسلمين من بين أيديهم ناجين بدينهم وأرواحهم وأعراضهم، اللهم خذ من ظلمهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم انزع الملك من بين يديه نزعا، واجعل ولاية هؤلاء المستضعفين في من ترضاه ويرضيك، ويقيم العدل بينهم، ويحكم كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم فوق أرضك.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم صلّ وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً