الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد
فاتقوا الله عباد الله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:200].
عباد الله، لقد تميزَ عصرُنا الحاضرُ بالتقدمِ التقني في مجالاتٍ عديدة، ومنها التقدمُ في المجالِ الإعلامي، وتنوعُ وسائلِ الاتصالِ الحديثة، وقد كان لهذه التقنيةِ الحديثةِ جوانبُ إيجابيةٌ كثيرةٌ وأخرى سلبية. ومن جوانبها الإيجابيةِ توظيفُ هذا الإعلامِ في خدمةِ العلمِ الشَّرعيِّ، بأسلوبِ التَّعليمِ، أو الإفتاءِ، أو نحوِ ذلك مما لا يخفى، مما أدى إلى تذليلِ كثيرٍ من العقباتِ، وتيسيرِ عددٍ من الصِّعاب، حيث أصبحَ العلمُ يصلُ بكلِّ يُسرٍ وسهولةِ إلى فردِ الأسرةِ وهو في بيتِه، وإلى السائقِ وهو في سيارتِه، وإلى الموظَّفِ وهو في عملِه، وإلى التَّاجرِ وهو في متجرِه، وهذا بخلافِ ما كان عليه الحالُ في أزمنةٍ سابقةِ، حيثُ كان المستفتي يرحلُ – أحيانًا – من أجلِ مسألةٍ، كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي (ت 462هـ) في كتابه الفقيه والمتفقه (2/375) حيث قال: “أولُ ما يلزمُ المستفتي إذا نزلتْ به نازلةٌ أن يطلبَ المفتيَ ليسألَهُ عن حُكمِ نازلتِه، فإن لم يكنْ في محلهِ وجبَ عليه أن يمضيَ إلى الموضعِ الذي يجدُه فيه، فإن لم يكنْ ببلدِه لزمَهُ الرحيلُ إليه وإن بَعُدت دارُه، فقد رحلَ غيرُ واحدٍ من السَّلفِ في مسألة” أهـ.
وهذه البرامجُ المشارُ إليها، مع ما فيها من فوائدَ جمَّةٍ، ومصالحَ راجحةٍ، إلا أنَّها كانت سببًا في بثِّ العديد من الفتاوى المختلفةِ في المسألةِ الواحدة، مما أدى إلى وقوعِ اللَّبسِ لدى العامة، حتى كَثُر سؤالُهم عن موقفِ الـمُستفتي من هذا الخلاف، هل يأخذُ برأيِ الجمهور، أم بالرأيِ الأشدِّ؛ لأنَّه الأحوطُ، أم بالرأيِ الأخفِّ؛ لأنه الأيسر، أم ماذا؟
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل، أمهِّدُ له بالتنبيهات الآتية:
التنبيهُ الأول: أنه يجبُ على غيرِ المختصِّ الشَّرعي أن يستفتيَ من يثقُ به ممن يغلبُ على ظنِّه أنَّه من أهلِ العلمِ والدِّين، كما أشار إلى ذلك ربُّنا عزَّ وجلَّ إذ يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43} [النحل]. أي: أهلَ العلم. ولهذا قال ابنُ سيرين ـ رحمه الله تعالى ـ “إن هذا العلمَ دينٌ فلينظرْ أحدُكم عمَّن يأخذُهُ”. قال الخطيبُ البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/376): “وإذا قصدَ أهلَ محلةٍ للاستفتاءِ، فعليهِ أن يسألَ من يثقُ بدينِه، ويسكنُ إلى أمانتِه عن أعلمِهم وأمثلِهم، ليقصدَهُ ويؤمَّ نحوَهُ، فليسَ كلُّ من ادَّعى العلمَ أحرزَهُ، ولا كلُّ من انتسبَ إليهِ كانَ من أهلِه”. أهـ.
وبناءً عليه، فإنَّه لا يصحُّ أن يستفتيَ العالمَ إذا كان فاسقًا، ولا العابدَ إن كان جاهلاً ولو كانَ إمامًا لمسجدٍ أو جامعٍ، ولا أن يستفتيَ طالبَ العلمِ في بابٍ لا يحسنُه، فلا يُسأل ـ مثلاً ـ في بابِ المعاملاتِ الماليةِ المعاصرة من لا يُحسنُ فهمَها، أو لا يدركُ واقعَها، أو لا يحيطُ بتفاصيلِها المؤثَّرةِ في الحُكم، ولو كان عالِـمًا شهيرًا، يقصدُه العامةُ لشهرتِه لا لعلمِه، كما حذَّر من ذلك العلامةُ ابنُ القِّيم في إعلام الموقعين (6/119) حيثُ قال: “وهذا الضَّرْبُ إنما يستفتونَ بالشكلِ لا بالفضْل، وبالمناصبِ لا بالأهليَّة، قد غرَّهم عُكوفُ من لا علمَ عندهُ علَيهم، ومسارعةُ أجهلَ منهم إليهم، وتعجُّ منهم الحقوقُ إلى اللهِ تعالى عَجيجًا، وتضجُّ الأحكامُ إلى من أنزلها ضَجيجًا، فمن أقدمَ بالجرأةِ على ما ليسَ له بأهل، فُتيا، أو قضاءٍ، أو تدريسٍ، استحقَّ اسمَ الذَّمِ، ولم يحلَّ قبولُ فتياه ولا قضائه، هذا حكمُ دينِ الإسلام” أهـ.
وهذا الكلامُ القيّم من ابنِ القيم ـ رحمه الله تعالى ـ يجرُّنا إلى التنبيهِ الثَّاني وهو: أنه لا يجوزُ العملُ بمجردِ فتوى المفتي إذا عَلمَ المستفتي أن الأمرَ في الباطنِ بخلافِ ما أفتاه، كما لا ينفعُه لو كان خصمًا قضى القاضي له بذلك، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” فمَن قَطَعْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ، فإنَّما أقْطَعُ له به قِطْعَةً مِنَ النَّارِ” [متفق عليه واللفظ لمسلم].
فالمفتي والقاضي في هذا سواء، ولهذا لا ينبغي للمستفتي أن يعملَ بمجرَّدِ فتوى المفتي إذا لم تطمئنَّ لها نفسُه، ولم يسكنْ لها قلبُه، ولو كان هذا المفتي ممن يتصدَّرُ للفتوى، كما يدل لذلك الحديثُ الذي حسَّنه النووي في [أربعينه ص47] عن وابصةَ بنِ مَعبدٍ ـ رضي الله عنه ـ وفيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: “دَع ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ البرُّ ما اطمأنَّت إليْهِ النَّفسُ واطمأنَّ إليْهِ القلبُ والإثمُ ما حاكَ في القلبِ وتردَّدَ في الصَّدرِ وإن أفتاكَ النَّاسُ وأفتوْكَ” [رواه أحمد في مسنده (4/227)، والدارمي في سننه (2/246) والحديث صحيح]، وبنحو هذا صرح العلامة ابن القيم في كتابه الإعلام (6/192-193) وإذا كان هذا في زمانِه، فكيف في زمانِنا الذي كَثُرَ فيه المفتون الذين يَجْرُون وراءَ رخصِ الفُقهاءِ بحجةِ المصلحَة، أو التَّيسيرِ على النَّاس..!! ثم قال كلامًا نفيسًا، ما نصُّه: “ولا يظنُّ المستفتي أن مجردَ فتوى الفقيهِ تُبيحُ له ما سألَ عنه إذا كان يعلمُ أنَّ الأمرَ بخلافِهِ في الباطنِ، سواء تردَّدَ أو حاكَ في صدرِه، لعلمه بالحالِ في الباطن، أو لشكِّهِ فيه، أو لجهلِهِ بِه، أو لعلمِهِ جهلَ الـمُفتي، أو محاباتِه في فتواه، أو عدمَ تقيُّدِه بالكتابِ والسُّنَّة، أو لأنَّهُ معروفٌ بالفتوى بالحيَلِ والرُّخَصِ المخالفةِ للسُّنَّة، وغيرِ ذلك من الأسبابِ المانعةِ من الثقةِ بفتواه، وسكونِ النَّفسِ إليها…” أهـ. وكلامه القيم هذا ـ رحمه الله ـ يجرنا إلى التنبيه الثالث.
وهو: أنَّه لا يجوزُ لغيرِ المختصِّ الشَّرعي أن يتتبعَ رُخَصَ الفقهاء، لا رُخَصَ الشَّارع، فَفَرْقٌ بين الأخذِ برخصةِ اللهِ تعالى، وبينَ تتبُّعِ رُخَصِ خَلقِه. فالأولُ: مندوبٌ إليه بمثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ أنْ تُؤْتى رُخَصُهُ، كما يَكرَهُ أنْ تُؤْتى مَعصيَتُهُ” وأما الثاني: فهو محرمٌ بإجماعِ أهلِ العِلمِ، كما صرَّحَ بذلك الحافظُ ابنُ عبدِ البرِّ فيما حكاه عنهُ ابنُ النَّجَّار في شرح الكوكب المنير (4/578) حيث نقل عنه أنه قال: “لا يجوزُ للعاميِّ تَتَبُّعُ الرُّخَص إجماعًا” أهـ. وقال الإمامُ أحمدُ ـ رحمه الله ـ: “لو أن رجلاً عَمِلَ بكلِّ رُخصة ٍكان فاسقًا”، وقال الإمامُ الغزالي ـ رحمه الله ـ في المستصفى (2/391): “لا يجوز للمستفتي أن يأخذَ بمذهبٍ بمجرَّد التَّشهِّي، أو أن ينتقيَ في كُلِّ مسألةٍ أطيبَها عندَه” أهـ. وحكى الزركشيُّ في البحر المحيط (6/325) عن النوويِّ ـ رحمهما الله تعالى ـ أنه سُئل: “هل يجوزُ أن يُقلِّدَ غيرَ المذهب في رخصةٍ لضرورةٍ ونحوها” فأجاب: “يجوز أن يعملَ بفتوى من يصلحُ للإفتاءِ إذا سألَهُ اتفاقًا من غيرِ تَلقُّطِ الرُّخص، ولا تعمُّدِ سؤالِ من يعلمُ أن مذهبَهُ التَّرخيصُ في ذلك” أهـ.
اللهم ارزقنا الورع في دينك، والتقوى في الاستقامة على شرعك، توبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى/
الحمد لله الذي شرع لنا خير دين، وأرسل إلينا أعظم رسول، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا..
عباد الله اتقوا الله، واعلموا بأنه إذا تقرر: أنه لا يجوزُ تَتَبُّعُ الرَّخصِ، ولا تَلقُّطُ الزَّلل، فما موقفُ غيرِ الـمُختَصّ الشَّرعيٍّ إزاءَ خِلافِ الـمُفتين؟
في هذه المسألةِ خلافٌ قديم، والأرجحُ ـ والله تعالى أعلم ـ ما ذهب إليه شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ، وتلميذُه ابنُ القيم، وهو أنَّ العاميَّ إذا اختلفَتْ عليه الفتوى، فإنه يجتهدُ حسبَ تمييزِه، ويتقي اللهَ حسبَ استطاعتِه، فإن ترجحَ له قولُ أحدِ المفتين لكونه الأعلم الأورع، أخذ بفتواه. فإن استويا في العلم والورع، أو شقَّ عليه معرفةُ الأعلم منهما، ولكن ما استدلَّ به أحدُهما أقوى في الحُجَّةِ وظُهورِ الدَّليلِ مما استدلَّ به الآخر، أخذَ به، أو كانت نفسُه تسكُنُ لفُتيا أحدِهِما، ويطمئنُّ لها قلبُه، دونَ فتيا الآخر، أخذَ بهذا المرجَّح، وكذا لو ترجَّحَ له قولُ أحدِهما، لكثرة من أفتى به من أهلِ العلم، أخذَ به.. وهكذا. قال العلامة ابن القيم –رحمه الله- في الإعلام (6/137-138) موجهاً هذا القول: “وقد نصب اللهُ سبحانه وتعالى على الحقِّ أَماراتٍ كثيرةً، ولم يسوِّ اللهُ –سبحانه وتعالى- بين ما يحبُّه ُوبين ما يَسخَطُه من كلِّ وجْه، بحيثُ لا يتميَّزُ هذا من هذا، ولابد أن تكونَ الفِطَرُ السليمةُ مائلةً إلى الحقِّ، مؤثرةً له، ولابد أن يقومَ لها عليه بعضُ الأماراتِ الـمُرجِّحَة…” أهـ.
ومثلُ ذلك: القولُ بالأخذِ بأخفِّ القولين، لأنه الأيسرُ… استدلالاً بحديث: “ما خُيِّرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ إلَّا أخَذَ أيْسَرَهُمَا…” [رواه البخاري]، أو بنحو هذا من الأدلة، فليس الاستدلالُ بهذا الحديث أو نحوه بأولى من الاستدلال بحديث الصحيحين: “ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ…” [واللفظ لمسلم]، للأخذِ بأغلظِ القولين.
وكلا الحديثين لا ينهضُ الاستدلالُ بهما لذلك، فلا الأولُ لجوازِ الأخذِ بالأيسَر، ولا الثاني لوجوبِ الأخذِ بالأحوط، فغايةُ ما في الأوَّل النَّدبُ إلى الأخذِ بالأيسر فيما ثبتتْ إباحتُه، بخلافِ مسألتِنا، فهي فيما اختُلِفَ فيه، وغايةُ ما في الثاني كراهةُ الوقوعِ في الشُّبهات، وندبُ المسلمِ الورعِ إلى الابتعادِ عنها، لا غير. والله تعالى أعلم.
ونحن في المملكةِ العربيةِ السُّعودية، لدينا ـ من فضلِ اللهِ تعالى ـ هيئةٌ لكبارِ العلماء، وسماحةُ المفتي العام، وإدارةٌ للإفتاء في كلِّ منطقة، وعلماءُ أجلاءُ لهم مرجعية شرعية ورسمية، فعلينا أن نرجعَ إليهم، وأن نتجنبَ ما يُبثُّ هنا وهناك في وسائلِ التَّواصل، أو بعضِ الفضائيات، ممن نصبوا أنفسهم للفتيا دون اعتماد من مؤسسة رسمية معتبرة في بلادنا، من أي بلاد كانت.
اللهم دُلَّنا على ما يرضيك، وباعد بيننا وبين ما يُسخطك، اللهم إنا نعوذُ بك من مُضِلَّات الفتن، ما ظهرَ منها وما بطن.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، اللهم ردنا إليك، وارحم ضعفنا بين يديك ، واهدنا واهد بنا ، وأصلحنا وأصلح بنا ، واجعل أيامنا القادمة خيرًا من أيامنا الماضية، وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما، واجعل رزقنا رغدا، وعيشنا سعادة، ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدا، واجعلنا من أهل جنة النعيم ، واحشرنا مع الأنبياء والصديقين والصالحين والشهداء وحسن أولئك رفيقا،
اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، وانصرهم على من بغى وطغى عليهم، وأرنا في أعدائك وأعداء الإسلام يومًا أسودًا يُعزُّ فيه جنُدك، ويذلُّ فيه أعداؤك.
اللهم وفق وليَّ أمرِنا خادمَ الحرمين الشريفين ووليَّ عهده وأعوانهم لما تُحبُّ وترضى، وخُذْ بنواصيهم للبر والتقوى، واجعلْ أعمالَهم في رضاك، أصلح له أعمالهم، وأصلح بهم رعيتهم، واجعلهم هداة مهتدين، يحبون بحبك من أحبك، ويعادون من عاداك، وارزقهم البطانة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه، وجنبهم بطانة السوء، يا رب العالمين.
اللهم وانصر المجاهدين في الحدِّ الجنوبي على أعدائهم الحوثيين ومن ساندهم، وتقبل شهداءهم، وداوِ جراحهم، واخلفهم في أهلهم خيرًا.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم.
اللهم صل وسلم على الحبيب المصطفى، والرسول المجتبى ، وعلى آله وصحبه الأطهار الأخيار أجمعين.
—————————-