وقفات مع سورة الفاتحة

الخطبة الأولى:

   الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وإله المرسلين، وقيوم السماوات والأرضين.

   وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

   أما بعد.. فيا عباد الله (اتقوا الله) وصية الخالق عز وجل لعباده المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} [سورة الأحزاب: 70].

  أيها الأحبة في الله.. لقد كرّمنا الله بأعظم نعمة حباها خلقه، ألا وهي نعمة الإسلام، ورحمنا بإرسال خير الأنام، واختصنا بأفضل كلام، كتابه الكريم؛ الفارق بين الهدى والضلال، والغيّ والرشاد، والشك واليقين، وأنزله لنقرأه تدبرًا، ونتأمله تبصرًا، ونسعد به تذكرًا، ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه، نصدِّق به ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه، ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله – سبحانه – من أشجاره، ورياحين الحِكَم من بين رياضه وأزهاره، فهو كتابه الدَّالُ عليه لمن أراد معرفته، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنُّزُل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء، لا تفنى عجائبه، ولا تقلع سحائبه، كلما ازدادت البصائر فيه تأملاً وتفكيرًا، زادها هداية وتبصيرًا، فهو حياة القلوب ولذة النفوس ولكن: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [سورة النساء: 82].

   نعم إن الأقفال التي استحكمت حلقاتها على القلوب هي التي تحرمها من طعم الحياة الحقيقية، ولذة النفوس العلية؛ التي تمتع بها المتقون الصادقون، وها نحن أولاء نقرأ فاتحة الكتاب في اليوم سبع عشرة مرة على الأقل، فما مدى تأثرنا بها؟ وإلى أي مقدار استيعابنا لمعانيها، وهل حاولنا أن نلتمس كتابًا لتفسير كتاب الله لنطلع على فضائلها، ونغوص في بحار معانيها، لا شك أننا مقصرون، وكم حرمنا أنفسنا من حياة القرآن ولذته؛ اللتين يحدثهما في قلوبنا وأنفسنا.

   فتعال معي يا عبد الله نقف عند أمّ الكتاب، عند الواقية عند الكافية عند الفاتحة، نقف عندها وقفات لا نقصد بها التفسير بقدر ما نقصد التدبر والتأمل.

أيها المحب لربه وكتابه ..

   اشتملت هذه السورة العظيمة على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، وهي (الله، والرب، والرحمن) وبُنيت السورة على الإلهية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وعلى الربوبية {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وعلى الرحمة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، والحمد يتضمنها جميعًا؛ فهو المحمود في إلهيته وربوبيته ورحمته..

وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم، حسنها وسيئها، وتفرد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل {مالك يوم الدين}.

   وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة منها قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، فالهداية هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام، ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل، فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف، ترتب عليه هداية التوفيق، وجعلُ الإيمان في القلب، وتحبُّبهُ إليه، وذلك من الله تبارك وتعالى.

   ومن هنا نعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة، وبطلان قول من يقول: مهتدين فكيف نسأل الهداية؟

   فإن ما نجهله من الحق أضعاف ما نعرفه، وما لا نريد فعله تهاونًا وكسلاً كثير، حرمْنا أنفسَنا منه، وما لا نقدر عليه ونتمناه كثير أيضًا.

   ولا أحد يستطيع هدايتنا إلى ذلك كله إلا الله جلّ في علاه، ونحن محتاجون إلى الهداية التامة، فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.

   وهناك هداية أخرى وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة، وهو الصراط الموصل إليها، فمن هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أَرسل به رسله، وأَنزل به كتبه، هُدِي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته ودار ثوابه، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الركاب، ومنهم من يسعى سعيًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المخدوش المسلَّم، ومنهم المكردس في النار، فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط مِن سيرِه على هذا، حذو القُذة بالقذة جزاءً وفاقًا، {وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة النمل: 90].

   ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجنتي ذلك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت، فكذلك هي هناك {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [سورة فصلت: 46]، فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير والسلامة من كل شر.

   ثم ذكر الله تبارك وتعالى ثلاثة أصناف في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}؛ لأن العبد إما أن يكون عالمًا بالحق، أو جاهلاً به، والعالم بالحق إما أن يكون عاملاً بموجبه، أو مخالفًا له، فالعالم بالحق العامل به هو المنعم عليه، وهو الذي زكَّى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وهو المفلح {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [سورة الشمس: 9].

   والعالم بالحق المتبع لهواه هو المغضوب عليه، والجاهل بالحق هو الضال، يقول صلى الله عليه وسلم: عن عدي بن حاتم ((اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال))، [رواه الترمذي وأحمد وصححه ابن حبان، والحديث في صحيح الجامع للألباني برقم : 8202].

   وقد ذكر الله سبحانه لفظ الصراط المستقيم مفردًا معرفًا (الصراط المستقيم)، وأما طرق أهل الغَضَب والضلال فإنه يجمعها ويفردها، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام: 153].

لأن طريق الله واحد، وأما طرق الشيطان فلا حصر لها.

   عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا مربعًا، وخط في وسط الخط خطًّا، وخط خارجًا من الخط خطا وحول الذي في الوسط خطوطًا، فقال: هذا ابن آدم، وهذا أجله محيط به، وهذا الذي في الوسط الإنسان، وهذه الخطوط عروضه إن نجا من هذا ينهشه هذا، والخط الخارج الأمل)) رواه الترمذي وصححه الألباني.

   بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى:

   الحمد لله المبتدئ بحمد نفسه قبل أن يحمده حامد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الرب الصمد، الواحد الحي القيوم الذي لا يموت، ذو الجلال والإكرام والمواهب، المتكلم بالقرآن، الفارق بين الشك والبرهان، الذي أعجزت الفصحاءَ معارضتُه، وأعيت الألباءَ مناقضتُه، جعل أمثاله عبرًا لمن تدبرها، وأوامره هدى لمن استبصرها، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا ..

أما بعد: فقد وردت أحاديث عديدة في فضل سورة الفاتحة، منها ما رواه أبو سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت، قال: فأتيته، فقال ما منعك أن تأتيني؟ قال: قلت يا رسول الله إني كنت أصلي، قال: ألم يقل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، قال فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت يا رسول الله: إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال: ((نعم، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)) أخرجه أحمد والبخاري وغيره.

   وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل، إذا سمع نقيضًا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفًا منها إلا أوتيته) رواه مسلم.

   وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج ثلاثًا – غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين)، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم)، قال الله: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: (ملك يوم الدين) قال: مجدّني عبدي، وقال مرة: فوّض إليّ عبدي، فإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) رواه مسلم.

   عن أبي سعيد الخدري قال: ((كنا في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية، فقالت: إن سيد الحي سليم، وإن نفرنا غيب، فهل منكم راقٍ، فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية، فرقاه فبرأ فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنًا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأمّ الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئًا حتى نأتي أو نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وما كان يدريه أنها رقية؟! اقسموا واضربوا لي بسهم)) رواه البخاري، ح(4721).

   هذه بعض أسرار أمّ القرآن، وكتب التفسير مليئة بمعانيها العظيمة، ودلائلها النافعة فهلا سألنا الله تعالى العزيمة على الرشد، وأن يكون لنا من وقتنا وقت نجالس فيه أهلنا وذوينا ندارسهم كتاب الله، ونتدبر معهم آياته

   نسأل الله تعالى التيسير في الأمور كلها.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم حرّر المسجد الأقصى من براثن اليهود الغاصبين، وحرّر كل بلاد المسلمين من أيدي الكفرة والملحدين والصليبين، اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميرًا له، اللهم حبب لإمامنا ما تحبه وترضاه، وأصلح له حاله وإخوانه وأعوانه، واكلأه برعايتك وتوفيقك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.

اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 



اترك تعليقاً