آداب المعلم

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله عليه وعلى آله وصحبه أفضل التسليم والصلوات، أما بعد

فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء].

إنها الرقابة التي لا يخفى معها شيء على الله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) } [غافر]، { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك]، {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} [الرعد].

أيها الأخوة المؤمنون، لقد بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم للإنس و الجن بشيرًا ونذيراً، ووسيلته في هذه الرسالة العظيمة، هي التعليم و الوعظ، { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) } [الجمعة]، فكان ذلك هو الجانبَ الأعظمَ من حياته صلى الله عليه وسلم، إذ إنه هو الجانب الذي ينبع عنه كل خير، ولا يستقيم أي جانب من جوانب الحياة إلا به، والمعلم هو قطب الرحى، و هو المرتكز الذي إذا ثبت في موقعه الصحيح، وأدى عمله على الوجه الصحيح، دارت حوله دورة التعليم في مسارها الصحيح، وآتت ثمارها المرتجاة.

والمعلم الأول في هذه الأمة هو رسولها الكريم محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد نجح في نقل ألوف الرجال والنساء من صحابته الكرام من الظلمة إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الضياع إلى العزة والكرامة، ومن حياة لا معنى لها، إلى حياة هي كل الحياة.

إنك لن تجد طاقة من طاقات الإنسان إلا أطلقها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في طريقها الصحيح، فأصبحت ترى من أصحابه العجب في تكامل شخصياتهم عبادًا زهادًا، وشجعانًا محاربين، وعادلين رحماء، وحكماء مربين، كل واحد منهم أمة وحده.

أيها الإخوة المؤمنون..

ولنقف سويًّا على بعض الوسائل النبوية في التربية، مستأنسين ببعض وسائل الصحابة الذين هم نتاج تعليمه وتربيته صلى الله عليه وسلم.

فمن أبرز وسائل إيصال الفكرة إلى مستمعيه أنه ” أنَّهُ كانَ إذَا تَكَلَّمَ بكَلِمَةٍ أعَادَهَا ثَلَاثًا، حتَّى تُفْهَمَ عنْه، وإذَا أتَى علَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عليهم، سَلَّمَ عليهم ثَلَاثًا” [صحيح البخاري].

وهذا كثير فيما وردنا من أحاديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولذلك وعى عنه صحابته أحاديثه كما قالها أو قريبًا من ذلك وبلغوها للأمة من بعدهم بدقة وأمانة.

وكان يشد انتباهَ الصحابة رضي الله عنهم بالسؤال أحيانًا، كما ورد في صحيح البخاري: “أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ قُلْنا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فقالَ: ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ فَما زالَ يقولُها، حتَّى قُلتُ: لا يَسْكُتُ” [رواه البخاري]. المح معي هذا التواصل الحيَّ الإيجابي في التعليم، وهل سينسى التلاميذ موقفًا مثل هذا الموقف، وهل سيحتاج المعلم أن يقول لهم: إن هذا شيء مهم، وقد جلس من أجله وكرره بكل اهتمام؟

و كان من وسائله صلى الله عليه وسلم التي نجدها في القرآن الكريم كثيرًا: القصة، وقد روت لنا كتب الحديث عشرات القصص النبوي البديع التي لها تأثير عظيم في القلوب والنفوس، وإذا لم تكن القصة طويلة كقصة أصحاب الغار، وقصة غلام الأخدود، فتكون في قصة قصيرة جدًا يلمِّح بها رسول الله إلى مَثَلٍ من الأمم السابقة يكون عبرة لأمته، كما في صحيح البخاري: “كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ به جُرْحٌ، فَجَزِعَ، فأخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بهَا يَدَهُ، فَما رَقَأَ الدَّمُ حتَّى مَاتَ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عليه الجَنَّةَ” ألا ترى يا أخي الكريم لهذه اللمحة القصصية أثرًا بليغًا في نفسك؟ وكيف حمى الله بها نفوس كثيرٍ من الناس الذين سول لهم الشيطان مثل هذا العمل؟!

وكان صلى الله عليه وسلم حسن المنطق، رفيقًا مع من يخطئ أو يطلب الخطأ، حليمًا إلى أبعد حدود الحلم مع الجاهلين، فقد روى صاحب مجمع الزوائد عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ: “أنَّ فتًى من قريشٍ أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ اللهِ ائذَنْ لي في الزِّنا. فأقبَل القومُ عليه وزجَروه فقالوا: مَهْ مَهْ. فقال: ادنُهْ. فدنا منه قريبًا فقال: أتُحِبُّه لأمِّك؟ قال: لا واللهِ جعَلني اللهُ فداك. قال: ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لأمَّهاتِهم. قال: أفتُحِبُّه لابنتِك؟ قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ جعَلني اللهُ فداك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لبناتِهم. قال: أفتُحِبُّه لأختِك؟ قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ جعَلني اللهُ فداك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونه لأخواتِهم. قال: أتُحِبُّه لعمَّتِك؟ قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ جعَلني اللهُ فداك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لعمَّاتِهم. قال: أتُحِبُّه لخالتِك؟ قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ جعَلني اللهُ فداك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لخالاتِهم. قال: فوضَع يدَه عليه وقال: اللَّهمَّ اغفِرْ ذنبَه وطهِّرْ قلبَه وحصِّنْ فرجَه. قال : فلم يكُنْ بعدَ ذلك الفتى يلتَفِتُ إلى شيءٍ” [رجاله رجال الصحيح].

وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال ابن مسعود لأصحابه يومًا: “كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتَخَوَّلُنا بالمَوْعِظَةِ في الأيَّامِ، كَراهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا”. [رواه البخاري].

وعنْ أَبي سَعيدٍ قالَ: كان أَصْحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا جَلَسوا كان حَديثُهُمْ ـ يَعْني الفِقْهَ ـ إلَّا أنْ يَقْرَأَ رَجُلٌ سورةً، أَوْ يَأْمُر رَجُلًا يَقْرَأُ سورة”ً [صحيح على شرط مسلم]

تلك شذرات من أساليب الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم أمته.

يأَيُّها الأُمِيُّ حَسبُكَ رُتبَةً           في العِلمِ أَن دانَت بِكَ العُلَماءُ

عباد الله، توبوا إلى واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى/

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المرسلين، وقدوة الناس أجمعين، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا أما بعد فاتقوا الله عباد الله.

لقد اقتبس الصحابة الأطهار من نور رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشاعل العلم والتعليم، وساروا على منهجه الكريم، فلنقتبس نحن منها ما ينفعنا في ديننا ودنيانا:

هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “تعلموا العلم وعلموه الناس وتعلموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه العلم، ولمن تعلمونه العلم، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يقوم جهلكم بعلمكم”. وورد في الأثر: “ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يُقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يرخِّص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمِّنهم مكرَ الله، ولم يترك القرآن رغبةً عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا خير في فقه ليس فيه تفهم، ولا خير في قراءة ليس فيها تدبر”.

ويقول ابن عمر رضي الله عنهما: “لا يكون الرجل من العلم بمكان حتى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من دونه ولا يبتغي بالعلم ثمنًا”.

وهذه عائشة رضي الله عنها تقول لابنِ أبي السائبِ قاصِّ أهلِ المدينةِ: “ثلاثًا لتتابعَنِّي عليهنَّ أو لأناجِزَنَّك، قال: وما هنَّ؟ بل أتابعُك أنا يا أمَّ المؤمنينَ، قالت اجتنبِ السجعَ في الدعاءِ فإن رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه كانوا لا يفعلون ذلك وقُصَّ على الناسِ في كلِّ جمعةٍ مرةً فإن أبيتَ فثِنتينِ فإن أبيتَ فثلاثٍ، ولا تمكنِ الناسَ هذا الكتابَ، ولا ألفيَنَّك تأتي القومَ وهم في حديثِهم فتقطعَ عليهم حديثَهم، ولكن اتركْهم فإذا حدَوك عليه وأمروك به فحدِّثْهم” [رجاله رجال الصحيح].

وكان من أدبهم في التعليم أنهم لا يدَّعون علمهم بكل شيء، بل كانوا يقولون فيما لا يعرفون: (لا أدري)، واشتهرت عن كثير منهم. فقد سُئل ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وهو أحد علماء الصحابة عن فريضة من الصُّلب فقال: لا أدري، فقيل له: ما يمنعك أن تجيبه؟ فقال: سئل عمر عما لا يدري فقال لا أدري”.

ويقول عقبة بن سلم: “صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرًا، فكان كثيرًا ما يُسأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إلي فيقول: أتدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرًا إلى جهنم”.

وهذا رجل يسأل عليًا ـ رضي الله عنه ـ عن مسألة قال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي: أصبتَ وأخطأتُ ﴿… وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)﴾ [يوسف].

وكان يبادرون إلى تعليم الناس، وربما سلكوا المنهج التطبيقي في التعليم، لأنه أكثر إبلاغًا وأوضح عملًا، كما فعل مالك بن الحويرث ـ رضي الله عنه ـ حين صلى أمام الناس صلاة في غير وقت صلاة، ليعلمهم، كما ورد في صحيح البخاري.

تلك إشارات سريعة يكفيها أن تكون شموسًا ساطعة في طريق أهل التعليم والدعوة والإفتاء وإن لم تستطع أن تلم بكل جوانب الموضوع لعظمته وسعته.

ولكل واحد منا أن يتلمس بعض هذه الجوانب؛ لنقتدي برسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في واقعنا العملي، فتشهده أروقة المساجد، ومدرجات الجامعات، وفصول المدراس.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين في الحد الجنوبي وفي كل مكان، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك حربا على أعدائك.

اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، واجعلهم ذخرًا للإسلام والمسلمين.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيء لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُذلُّ فيه أهلُ معصيتِك، ويؤمرُ فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم.

ربَّنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.

 

——————————

خطبة / آداب المعلم/ جامع الخضري/ 19/ 2 / 1446هـ