أويس القرني.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد

فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، كما أمرنا بذلك الله جل وعلا في كتابه العزيز فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}.

أيها الأحبة في الله

في سير السلف الصالح عبرة لأولي النهى والبصائر، وفي تذكرهم حياة للقلوب، وتنبيه للعقول، أليسوا هم المثالَ الحي، الذي تجسد فيه الإسلام حتى عرفه الناس كما ينبغي أن يعرف، أليسوا الذين عرفوا الله حق معرفته، فوهبوا له حياتهم كلها لا شريك له، وعرفوا دينه فجعلوه منهاجهم الذي لا يحيدون عنه، وعرفوا نبيه فاتخذوه قدوة وإماما يأتمون به، وعرفوا كتابه فحفظوه في الصدور، ووعوه في القلوب، وطبقوه

في سائر أعمالهم وأقوالهم، واتخذوه حكما وصراطا مستقيما، فيا ليت شعري: أين الذين إذا ذكروا تهللت لذكرهم الوجوه، وانشرحت لهم القلوب، وفاضت لأجلهم العيون، بل إذا ذكروا ذُكر الله!

أين الذين إذا تهادى ذكرهم فاح الأريج كأنهم قد عادوا

ننتخب اليوم واحدا من هؤلاء، إنه أحد الرجال الأخفياء، الذين عاشوا في الظل، بعيدا عن أضواء الشهرة، واحدا ممن قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهم في الحديث الصحيح: “خير القرون قرني الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”، واحدا من التابعين الأفذاذ، الذين تلقوا العلم عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، وتسلموا الراية من أيديهم، واحدا ولكنه ليس كأي واحد من الناس، بل هو رجل بَشَّر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسماه باسمه، وجلاه بوصفه، وأمر الصحابة بالسؤال عنه والتعرفِ عليه، وطَلَبِ الدعاء منه، فمن هذا التابعيُّ الذي يسأله الصحابةُ الأجلاء الكرامُ الدعاء لهم، وهم أفضل الخلق بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويكون إخبار النبي عنه معجزة من معجزاته، فهو لم يلقه، وإنما تلقى خبره عن الله تعالى، قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الصحيح:

“إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدةٌ هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبره، وكان به بياض، [أي برص]، فمروه فليستغفر لكم”.

أويس القرني رجل آتاه الله من الإيمان والزهد في الدنيا حظا عظيما، إنه أنموذج من نماذج الصدق مع الله تعالى، والتجرد من حظوظ النفس الدنية التي تراود الإنسان في عمله الذي ينبغي أن يخلصه لله تعالى. ولك أن تعجب أيها المسلم من خفاء سيرة هذا التابعي الجليل علينا، حتى إن التاريخ لم يستطع أن يظفر بتفاصيلها، من شدة حرصه – رحمه الله تعالى – على التخفي عن عيون الناس. بل حتى من عاصروه تعبوا في العثور عليه مع حرصهم على ذلك بعد وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم بطلب الدعاء منه.

روى مسلم رحمه الله في صحيحه بسنده عن أسير بن عمرو، كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه ـ إذا أتى عليه أمداد من أهل اليمن [وهم المتطوعون للجهاد في سبيل الله]، سألهم أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس – رحمه الله – فقال له: أنت أويسُ بنُ عامر؟ قال نعم. قال فكان بك برص

فبرأت منه إلا موضع درهم، قال: نعم، قال لك والدة؟ قال: نعم. قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: “يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بار، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل” فاستغفر لي.

فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لعاملها؟ قال: أكون في غُبْر الناس ( أي عامتهم ) أحب إلي.

ويروى أن عمر ـ رضي الله عنه ـ عرض عليه نفقة من عطائه، وكسوة من ثيابه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أصنع بالكسوة؟ أما ترى علي إزارا من صوف ورداء من صوف، متى تراني أخرقهما؟ أو ترى أن نعلي مخصوفتان؟ متى تراني أبليهما؟ إني أخذت من رعاية الإبل أربعة دراهم متى تراني آكلها؟ يا أمير المؤمنين إن بين يدي ويديك عقبة كؤودا لا يجاوزها إلا ضامر مخف مهزول فأخفف رحمك الله.

فلما سمع عمر ذلك ضرب بدرته الأرض ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت عمر لم تلده أمه، يا ليتها كانت عاقرا لم تعالج حملها، ألا من يأخذها بما فيها ولها؟ ثم قال: يا أمير المؤمنين خذ أنت ها هنا حتى آخذ أنا ها هنا، فولى عمر ناحية مكة وساق أويس إبله فوافى القوم بإبلهم وخلى عن الرعاية وأقبل على العبادة حتى لحق بالله عز وجل.

زهد في الدنيا نادر، مع أنه قد عرضت عليه هذه الملاذ دون استشراف ولا طلب ومن حاكم المسلمين، فلا بأس من أخذها شرعا، ولكنه آثر أن يبقى متبذلا، بعيدا عن إغراءات الدنيا مهما كانت قليلة.

ولكن ما سر بقاء قدر من الدرهم من البرص في جسده؟

علمنا أنه كان من أولياء الله الصالحين الذين يعرفون قدر نعمة الله، وكان مجاب الدعوة كما دل على ذلك الحديث الصحيح المذكور آنفا، تقول إحدى رواية حسنة الإسناد أنه دعا الله تعالى أن يذهب عنه البرص فأذهبه، ثم قال: “اللَّهمَّ دعْ في جسدي منهما أذكرُ به نعمَك عليَّ” فترك له ذلك الأثر قدر

درهم. ليتذكر نعمة العافية، وهو ما أشارت إليه رواية صحيحة: “دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي”.

وكم إنسان كان مريضا عليلا، توسل إلى الله تعالى كثيرا أن يشفيه، فلما منَّ عليه بالشفاء عاد يعصي الله بنعمه التي امتنَّ بها عليه، {إن الإنسان لظلوم كفار}. {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سورة يونس 10/12].

وكان من صفات هذا التابعي التي أشار إليها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه عَرَف مقدار فضل البر بأمه، ووصية الله تعالى بذلك في مثل قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [سورة الأحقاف 46/15].

فكان رحمه الله يخصها ببر عظيم، استحق معه قربه من الله تعالى ومحبته، الذي منَّ عليه بأهم صفة من صفات العبودية وهي الإخلاص، {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} {ألا إن أولياء الله لا خوف

عليهم ولا هم يحزنون}. فصار يفرُّ من الرياء والسمعة والشهرة، ولا يطمع في مال ولا جاه، ويحرص أن يكون جنديا خفيا في صفوف المسلمين لا يعرفه أحد.

ويؤكد هذا ويزيده جلاء ما رواه مسلم في صحيحه عن أويس أنه لما كان من العام حج رجل من أشرافهم فوافى عمر، فسأله عمر عن أويس، فقال: تركته رثَّ البيت، قليلَ المتاع، فقص عليه عمر ما سبق ذكره من خبره، ثم قال له: فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل!! فلما عاد الرجل إلى الكوفة أتى أويسا فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدا بسَفَر صالحٍ فاستغفر لي، فلما أخبره الرجل أنه لقي عمر، وأنه حدثه بأمره لم يجد بدا من أن يستعفر له. فلما رأى أويس أن أمره لم يبق سرا، وأن خبره قد شاع وذاع، وأن الناس يتحدثون بحديثه، ويكثرون التردد عليه، ويطلبون دعاءه واستغفاره، انطلق على وجهه مستخفيا عن الناس.

وقد روى عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه خرج يوما فوجد معاذ بن جبل عند قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبكي، فقال: ما يبكيك يا معاذ؟ قال يبكيني حديث سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه

وسلم ـ يقول: “اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراءَ مظلمة” قال الذهبي في التلخيص صحيح ولا علة له.

ولا بد من التنبيه على أن طلب عمر الدعاء من أويس لا يدل على فضل أويس على عمر، بل عمر أفضل منه، ولكن يدل على فضل أويس – رحمه الله – وصدقه وإجابة دعائه. وطلب الدعاء من الأدنى جائز.

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر 40/60].

عباد الله توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى / أويس

الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد

فإن أخبار أويس مع قلتها في كتب التاريخ بسبب تخفيه عن الناس لم تنته عند هذا الحد، بل أوردت كتب الزهد كثيرا من كلماته الرائعة في الزهد والعبادة والإخلاص والخوف من الله، ومن ذلك: أنه كان إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب، ثم يقول: “اللهم من مات جوعا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريانا فلا تؤاخذني به”.

وقال هرم بن حيان له يوما: أوصني، قال: توسدِ الموت إذا نمت واجعله نصب عينيك، وإذا قمت فادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك، فلن تعالج شيئا أشد عليك منهما.

ولا عجب بعد ذلك أن يكون كلامه مؤثرا في القلوب، مرتقيا بالنفوس، حتى ليقول أحد مستمعيه في الكوفة بعد أن قدمها بعد عودته من عمر ـ رضي الله عنه ـ : “ثمَّ قدم الكوفة فكنا نجتمع في حلقة فنذكر الله وكان يجلس معنا فكان إذا ذكرهم وقع حديثه في قلوبنا موقعا لا يقع حديث غيره ففقدته يوما فقلت لجليس لنا ما فعل الرَّجل الَّذي كان يقعد إلينا لعله اشتكى ؟ فقال رجل : من هو؟ فقلت: من هو؟ قال: ذاك أويس القرني فدللت على منزله فأتيته فقلت يرحمك الله أين كنت؟ ولم تركتنا؟ فقال لم يكن لي رداء فهو الَّذي منعني من إتيانكم” صحيح [على شرط مسلم].

فكم عالم تعلم العلم وعلم الناس ليقال عالم، وكم غني تصدق وأنفق ليقال كريم، وكم من قوي شجاع قاتل ليقال شجاع، وكم متزهد متعبد ليقال زاهد عابد، لذلك كان هؤلاء من أوائل من تسعر بهم النار يوم القيامة كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة. بل دل عليه قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. 

وتشير الأخبار إلى أنه بقي مجاهدا في سبيل الله حريصا على ألا يفطن إليه أحد في أيام عمر وعثمان، وفي موقعة صفين نادى منادٍ من أهل الشام أفيكم أويس القرني؟ قال: قلنا نعم، وما تريد منه؟ قال: إني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: “أويس القرني خير التابعين بإحسان” والحديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند بلفظ آخر. وكان وجود أويس في صفوف علي دليلا لهذا الرجل على أن الحق كان مع علي، فعطف دابته ودخل معه المعركة. ثم نادى علي من يبايعني على الموت؟ فبايعه تسعة وتسعون رجلا فقال أين التمام؟ فجاءه رجل عليه أطمارُ صوفٍ، محلوقُ الرأس فبايعه فقيل: هذا أويس القرني، فما زال يحارب حتى قتل، في سبع وثلاثين، رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.

هكذا كان أويس القرني رفعته صفات جليلة إلى مرتبة الأتقياء الأنقياء الأخفياء، آثر أن يحيا حياة الزاهدين، أخفى كل أعماله الصالحة بينه وبين الله، وهذه الخصال من البر والتقوى والزهد والتقشف وإخفاء الحال عن الناس هي خصال العارفين بالله من خاصة الأولياء كما يقول الإمام النووي في شرحه.

{لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}، فلنعرض حياتنا على حياة مثل هذا التابعي العظيم لنكتشف الخلل، ولنراجع النوايا، ولنقبل على الله تعالى كما يحب عز وجل.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين في الحدِّ الجنوبي وفي كل مكان، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك حربا على أعدائك.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيء لأمة الإسلام أمرا رشدا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.



اترك تعليقاً