ابدأ بنفسك

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وجمع به بعد الشتات، وأمَّن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ما اتصلت عين ببصر، ووعت أذن بخبر، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، استجابة لأمر الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيما}.

أيها المسلمون

كثيرًا ما ينظر أهل القلوب اليقظة إلى مسؤولياتهم أمام الله تعالى، فالموفق من يعرف أولويات هذه المسؤولية فيعطي كل ذي حق حقه، بقدر ما يستطيع، راجيًا أن يبلغه ربه الفردوس الأعلى من الجنة، {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)} [آل عمران]، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر].

وما المسؤولياتُ التي يجبُ على المسلم أن يقوم بها؟ وهل هي مراتبُ ومقامات؟

تعالوا إلى قصة رواها الإمام البخاري في صحيحه: {آخَى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ سَلْمَانَ وأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً [يَعنِي تَلبَسُ ثِيابَ الخِدمةِ وعَمَلِ البيتِ وتَترُكُ التَّزيُّنَ]، فَقَالَ لَهَا: ما شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أخُوكَ أبو الدَّرْدَاءِ ليسَ له حَاجَةٌ في الدُّنْيَا. فَجَاءَ أبو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ له طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فإنِّي صَائِمٌ، قَالَ: ما أنَا بآكِلٍ حتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فأكَلَ، فَلَمَّا كانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أبو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كانَ مِن آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ. فَصَلَّيَا فَقَالَ له سَلْمَانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فأتَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَذَكَرَ ذلكَ له، فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: صَدَقَ سَلْمَانُ”.

فالحقوق في هذا الحديث مرتبة ثلاثَ مراتب، الأولى: حقُّ الله سبحانه وتعالى، ويتمثل في الإيمان به، وبما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، والثانية: حقُّ النفس: من الاهتمام بالجسد وما حوى، والقلب وما وعى، والثالثة: حقُّ الأهل برعايتهم والإنفاق عليهم وتلبية احتياجاتهم النفسية والجسدية.

وإذا كنتُ قد تحدثتُ كثيرًا عن واجبات الرجل تجاه زوجه وولده، فإني اليوم أريد أن أتحدث عن واجبه تجاه نفسه، فالمرء الحصيف يعلم بأنه مسؤول عن نفسه أولا، ﴿ٱقۡرَأۡ كِتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡیَوۡمَ عَلَیۡكَ حَسِیبࣰا ۝١٤ مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا یَهۡتَدِی لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا ۝١٥﴾ [الإسراء ١٤-١٥].

ومهما كانت واجباته تجاه غيره من زوج وولد، أو تلميذ أو قريب، فإن واجبه نحو نفسه أولى، والسعيد من زادته دعوتُه غيرًه للخير تهذيبًا لسلوكه، وتزكيةً لنفسه، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} [الشمس] قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسيرها: “وقد خاب في طِلبته، فلم يُدرك ما طلب والتمس لنفسه مِن الصلاح مَنْ دساها يعني: من دَسَّس الله نفسه فأَخْمَلها، ووضع منها، بخُذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصِيَ”.

يا أيها الرجل الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ                  هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ

تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى     كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ

ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا               فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ

فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى          بِالْقَوْلِ مِنْك وَيحصل التسليمُ

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ                عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ

عباد الله، لقد عُني العلماء والعارفون بالله بمسألة تزكية النفس، وطرائق تحصيلها، ذلك أنّ النّفس البشرية متقلّبة في مقاماتٍ عدّةٍ، وهي بحاجة إلى ما يزكّيها ويطهّرها، ويحميها من دنس السّقوط في مراتبَ سفليةٍ لا تليق بالمسلم، وقد كانت مهمّة العناية بالنّفس وتزكيتها محطّ اهتمام النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذ كان على جليل قدْره وقربه من الله- يدعو ربّه -جلّ وعلا- بالثبات؛ فكان ممّا يقوله ويستعيذ بالله منه: “اللَّهمَّ مُصرِّفَ القلوبِ صرِّف قلوبَنا على طاعتِكَ”،[رواه مسلم] وكان يدعو ربّه بزكاة نفسه؛ فيقول: “اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها”،[رواه المسلم]، وهو ما سار عليه العلماء الرَّبانيون على مر العصور والقرون، فقد ذكر الإمامُ أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية”. وقال الحسن “إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته”، وقد ذكر عدد من تلاميذ الشيخ عبدالعزيز ابن باز ـ رحمه الله تعالى ـ أنه كان يكثر من دعاء: اللهم “أصلح لي قلبي وعملي”.

وحريٌّ بكل مسلم أن يكون دعاء الثبات أحد أهم الأدعية التي يدعو بها لنفسه ولمن يحب، وأن يعمل بالوسائل الموصلة إليه ومنها: أنْ يعرف المسلم أصناف النفس ومراتبها، ولقد بيّن المولى – سبحانه – ذلك في كتابه العزيز على مراتبَ ثلاثٍ: أولها: النفسُ الأمّارةُ بالسّوء، وهي التي تأمر صاحبَها بالانغماس في الملذّات والشهوات، وتغريه بكلّ معصية وبُعدٍ عن الله تعالى، قال الله سبحانه: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} [يوسف:53]. وثانيها: النفس اللوامة، وهي التي تقع في الخطيئة، لكنّها لا تنقاد إليها، ولا تنغمس فيها، بل تعود وتؤوب، وتندم وترجع؛ فهي متقلّبة بين الوقوع في المعصية والتوبة منها، قال الله عزّ وجلّ: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] وثالثها: النفس المطمئنة: وهي أعلى درجات النّفس وأرقاها، وهي النّفس التي تطمئنّ إلى ذكر الله تعالى؛ فأطاعت وانقادت لأوامره، واستسلمت لأحكامه، وتاقت إلى رضوانه، وهي التي تُنادَى عند خروج الروح: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر: 27-29]. اللهم اجعلنا من أهلها، واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت قلوبنا على دينك وجوارحنا على طاعتك.      عباد الله توبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الأخرى

الحمد لله {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3]. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد فاتقوا الله عباد الله، واعلموا بأن المؤمن الحصيف هو الذي يراقب نفسه على الدوام ولا يغفل عنها: لأنه يعلم يقينًا، أنها متقلبة، تحتاج إلى تثبيت، طُلعة، تحتاج إلى ضبط، متأثرة بما حولها تحتاج إلى بيئة صالحة ومشاهدات طيبة، ناقصة تحتاج ـ دائمًا ـ إلى استكمال، ضعيفة تحتاج إلى تقوية، ويعلم ـ أيضًا ـ أنه إذا خسر نفسه فقد خسر كل شيء، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 9].

وأول طريق تهذيب النفوس أن يعترف المسلم بتقصير نفسه وعيوبها؛ ففي ذلك عونٌ على تحديد مكامن ضعفها، وإنّ الامتناع عن ذلك يجعل الإنسان يظنّ أنّه خالٍ من العيوب، ومبرءٌ من النقص؛ فلا يُقبلُ على تزكية نفسه، ولا يتطلّع إلى إصلاحها ومجاهدتها: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوي:69]. ومعنى ذلك أن المسلم كلما جاهد نفسه بصدق وإخلاص، كلما كان جديرًا بهداية الله تعالى له، ووصوله إلى مراتب القرب منه عز وجل.

ومما يجب على المسلم أن يؤدب نفسه عليه، تنميةُ الأخلاق الحسنة والمسالك الحميدة، وتعهّدُ النّفس بترسيخ هذه القيم الأخلاقية في واقعها حتى تصير أمرًا معتادًا، والطريق إلى ذلك هو تدريب النّفس وتطويعُها، فالذي اعتاد النميمة، يجاهد نفسه حتى يتوقف عنها، والذي اعتاد الغيبة يراقب مجالسه ويصفيها منها ويمتنع عن البقاء فيها إذا ذكر فيها مسلم غائب بعينه بما يكره، والذي يشكو من شدة غضبه وعصبيته، يتحلم، ويبحث عن العلاج عن يصبح حليمًا أو متحلمًا، عن أبي الدَّرداءِ:  “العِلمُ بالتَّعلُّمِ، والحِلمُ بالتَّحَلُّمِ، ومن يتَحَرَّ الخيرَ يُعطَه، ومن يَتَوَقَّ الشرَّ يُوَقَّه” [إسناده صحيح موقوف وله شاهد].

يا خادمَ الجسم كم تشقـى بِخدمته * * * أتطلب الربح فيمـا فيـه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها * * * فأنـت بالنفس لا بالجسم إنسـان

وإنْ أسـاءَ مُسـيءٌ فلْيَكنْ لكَ في * * * عُـروضِ زَلَّتِهِ صَفْـحٌ وغُفـرانُ

وكُنْ علـى الدَّهر مِعواناً لـذي أمَلٍ * * * يَرجـو نَداكَ فإنَّ الحُـرَّ مِعْـوانُ

واشدُدْ يَدْيـكَ بحَبـلِ الله مُعتَصِمـاً * * * فإنَّـهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْـكَ أركـانُ

مَـنْ يَتَّقِ الله يُحْمَـدُ فـي عَواقِبِـه * * * وَيكفِهِ شَرَّ مَـنْ عزُّوا ومَـنْ هانُوا

أيها المؤمن الصالح

إن إظهارَ الافتقار في جَنْب الله، والانكسار بين يديه -سبحانه- من أهمّ الأسباب المُعينة على تزكية النّفس؛ فيستشعر المسلم حاجته لرحمة الله، مع ملازمة الدّعاء، والاستعاذة بالله من شرور النّفس؛  ففي الحديث الصحيح: “قلِ: اللهمَّ فاطرَ السمواتِ والأرضِ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ، ربَّ كلِّ شيءٍ ومليكَه، أشهدُ أن لا إلَه إلا أنت، أعوذُ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشيطانِ وشِرْكِهِ، قلْها إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ ، وإذا أخذتَ مضجعَك”.

ومما يزكي النفس ويهذبها ويرتقي بها: إطلاقُ اللسان بذكر الله -عزّ وجلّ- فهو خير طريق لانشراح الصدر، وطُمأنينة القلب، وصدق الله تعالى إذ يقول: {الَّذينَ آمَنوا وَتَطمَئِنُّ قُلوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ أَلا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ القُلوبُ)،[الرعد:28].

والإقبال على تلاوة القرآن الكريم، يقول المولى سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ}.[الإسراء:82].

واستحضار لحظات الموت، ذلك أنّ الآفات الفتّاكة بقلب المسلم منشؤها طول الأمل وحبّ الدنيا، وذكر الموت يقطع تلك الأمراض وأسبابها؛ فيسلم قلب العبد من الحسد، والغشّ، والجشع، وغيرها، ثمّ تتزكّى نفسه ويصلح قلبه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “زوروا القبورَ فإنها تُذكِّرُكم الآخرةَ، وفي بعضِها: وتُزهدُ في الدنيا” [حديث صحيح].

ومن الأمور التي تُسهم بشكلٍ كبيرٍ في تزكية النّفس العنايةُ بسلامتها من الغلّ والحسد، وتعويدُها على محبة الخلق والنّصح لكلّ مسلمٍ، وإفشاء السلام، ونشر الأمن بينهم، وطلاقةُ الوجه وبثُّ البِشر في حياتهم، والإعراضُ عن جاهلهم وقبولُ أعذارهم، وترويضُ النّفس على ترك المراء والجدال مع من لا رجاء في انصياعه للحقّ، كما أنّ مجالسة الأخيار، والتّقرّبَ من الصالحين، ومطالعةَ أخبارهم وسِيَرهم من طرائق التّزكية الناجحة.

وإذا علمنا بأن تزكية النفوس جاءت في كتاب الله ـ كما أورد بعضهم ـ في نحو 59 موضعا في القرآن الكريم، علمنا مدى أهمية هذا الموضوع، وأن الله تعالى يريد منا أن نبدأ بأنفسنا قبل أن نأمر غيرنا أو ننهاه، فإذا فعل كل منا ذلك استقام أمر المجتمع المسلم كله، “اِبدَأْ بِنَفسِكَ… مَنهَجٌ لِلإِصلاحِ قَوِيمٌ، يَجِبُ أَن يَسِيرَ عَلَيهِ أَفرَادُ الأُمَّةِ؛ لِيَسلُكُوا بِهِ أَقصَرَ طُرُقِ إِصلاحِ مَجمُوعِهَا، وَلِيَصلُحَ بِهِ شَأنُ مُجتَمَعَاتِهِم، الَّتي مَا هِيَ في الوَاقِعِ إِلاَّ صَرحٌ عَظِيمٌ هُم لَبِنَاتُهُ وَأَعمِدَتُهُ، صِغَارًا وَكِبَارًا وَرِجَالاً وَنِسَاءً، وَرُؤَسَاءَ وَمَرؤُوسِينَ وَرُعاة ورَعِيَّةً وَمَسؤُولِينَ”.

حِينَمَا يَبدَأُ أَحَدُنَا بِنَفسِهِ فَيَعمَلُ الخَيرَ وَيُبَادِرُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ قُدوَةً حَسَنَةً لِمَن يَرَاهُ فَيَعمَلُ مِثلَ عَمَلِهِ، وَبِذَلِكَ يَنَالُ أُجُورًا كَثِيرةً وَتَتَضَاعَفُ حَسَنَاتُهُ، قَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: ” مَن سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجرُهَا وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا مِن بَعدِهِ مِن غَيرِ أَن يَنقُصَ مِن أُجُورِهِم شَيءٌ ” وَقَالَ: ” مَن دَلَّ عَلَى خَيرٍ فَلَهُ مِثلُ أَجرِ فَاعِلِهِ” رَوَاهُمَا مُسلِمٌ وَغَيرُهُ.

اِبدَأْ بِنَفسِكَ وَأَصلِحْ أُسرَتَكَ، اِبدَأْ بِنَفسِكَ وَرَبِّ زوجتك وأَبنَاءَكَ وبناتك عَلَى كُلِّ فَضِيلَةٍ وَكُفَّ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُم، اِبدَأْ بِنَفسِكَ وَأَعطِ الطَّرِيقَ حَقَّهَا وَلا تُؤذِ النَّاسَ فِيهَا، اِبدَأْ بِنَفسِكَ وَكُنْ حَسَنَ الأَخلاقِ مَعَ الآخَرِينَ وَعَامِلْهُم بِأَحسَنَ مِمَّا يُعَامِلُونَكَ بِهِ، وَلا تُقَلِّدْهُم في تَقصِيرِهِم أَو تُعَامِلْهُم بِمِثلِ سُوئِهِم، اِبدَأْ بِنَفسِكَ وَصِلْ مَن قَطَعَكَ وَأَعطِ مَن حَرَمَكَ، وَأَحسِنْ إِلى رَحِمِكَ وَأَقَارِبِكَ وَجِيرَانِكَ، اِبدَأْ بِنَفسِكَ إِن وَجَدتَ مَشرُوعًا مِن مَشرُوعَاتِ الخَيرِ أَو سَمِعتَ بِدَعوَةٍ لِلتَّبَرُّعِ لإِخوَانِكَ المَنكُوبِينَ في المنصات الرسمية الآمنة، وَسَاهِمْ وَلا تَقُلْ أَينَ أَصحَابُ الأَموَالِ وَأَربَابِ التِّجَارَاتِ؟!

إِنَّكَ إِن كُنتَ هَكَذَا سَبَّاقًا إِلى الخَيرِ مُبَادِرًا إِلى البِرِّ، كُنتَ مِنَ المُقَرَّبِينَ إِلى رَبِّكَ وَمَولاكَ، القَائِلِ – سُبحَانَهُ -: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [الواقعة: 10 – 12] اللَّهُمَّ اجعَلْنَا مِنَ السَّابِقِينَ المُسَابِقِينَ، المُسَارِعِينَ المُبَادِرِينَ، وَلا تَجعَلْنَا مِمَّنِ استَهوَتهُمُ الشَّيَاطِينَ، فَأَصبَحُوا حَيَارَى مَحرُومِينَ مَخذُولِينَ… ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57].

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين في ثغورنا وفي كل ثغور المسلمين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم.

اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده وأعوانهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وأصلح بهم أمور البلاد والعباد.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيء لأمة الإسلام أمرا رشدا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم غيثًا مُغيثًا، سحًا غدقًا، نافعًا غير ضار، تغيث به البلاد والعباد، وتسقي به الحاضر والباد.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك  ومنك يا أكرم الأكرمين.

—————————–

الخطبة بتاريخ  7 / 7 / 1445هـ