فاتقوا الله عباد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) } [الحشر].
أيها الإخوة المؤمنون. يطل علينا هلال شهر عظيم. شهر الرحمة، والمغفرة والعتق من النار، { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) } [البقرة]. نسأل الله تعالى أن يبلغنا صيامه وقيامه. وأن يتقبل ذلك كله منا.. إنه سميع مجيب.
وإني لأهنئكم كما أهنئ نفسي وجميع أحبابي المسلمين بهذه المنة العظيمة. ولم لا وقد روى أَبو هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ أنه “كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ. أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ” [حديثٌ حسن].
وفي الحديث الذي صححه الإمام الألباني رحمه الله تعالى: عن رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تفتحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، و تُغلَق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ”. وفي رواية ينادي مناد: “يا باغي الخير أقبل. ويا باغي الشر أقصر”.
وفي الحديث الحسن: “إِنَّ هذا الشهرَ قدْ حضَرَكُمْ، وَفيهِ ليلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شهْرٍ، مَنْ حُرِمَها فَقَدْ حُرِمَ الخيرَ كُلَّهُ، ولَا يُحْرَمُ خيرَها إلَّا محرومٌ”.
وقد امتن الله علينا بفرضية الصوم فيه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة].
“صعِد رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المنبرَ فلمَّا رقِي عَتبةً قال: آمينَ، ثمَّ رقي عتبةً أخرى فقال: آمينَ، ثُمَّ رقي عتبةً ثالثةً فقال: آمينَ، ثمَّ قال: أتاني جبريلُ فقال: يا محمَّدُ مَن أدرَك رمضانَ فلم يُغفَرْ له فأبعَده اللهُ قُلْتُ: آمينَ قال: ومَن أدرَك والديه أو أحدَهما فدخَل النَّارَ فأبعَده اللهُ، قُلْتُ: آمينَ فقال: ومَن ذُكِرْتَ عندَه فلم يُصَلِّ عليكَ فأبعَده اللهُ، قُلْ: آمينَ ، فقُلْتُ: آمينَ ” [حديث صحيح].
رمضان شهر البركات، نهاره صيام. وليله قيام، والمؤمن فيه دائم التعلق بالله، خفف عن قلبه أثقال الأرض، وتبعات الدنيا، وألجمَ الصوم شهواته ونزواته، وتعلق بالمسجد، فإذا دخله لم يردِ الخروج منه إلا لحاجاته، وإذا خرج فإن قلبه يبقى معلقًا به حتى يرجع إليه.
وما أجلَّ هذا الوصفَ النديَّ الذي ارتبط بك ـ أخي المسلم ـ في الشهر الكريم (الصائم)، بكل ما تحمل هذه الكلمة من أحاسيس وإيحاءات.
صائم: طاعة لله تعالى. وليس رياء ولا سمعة، فما أبعد الصوم عن الرياء! ألم يقل المولى جل وعلا في الحديث القدسي: “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ” [رواه الشيخان وغيرهما].
صائم: تعبدًا لله تعالى. وأيُّ عزٍّ أعظمُ من ذلك:
ومما زادني شرفا وتيها |
|
وكدت بأخمصي أطأ الثريَّا |
دخولي تحت قولك يا عبادي
|
|
وأن صيرت أحمدَ لي نبيَّا |
صائم: تستشعر بها أنك داخلٌ في عبادة تستمرُّ ساعاتٍ طوالًا. لا تعيقُك عن نشاط، ولا تمنعك من راحة، بل تُضفي على جوارحك خشوعًا، وعلى شخصك وقارًا، وعلى فؤادك راحةً كم كنت تنشدها. وأنت تشقُّ بحر الحياة المتلاطم.
الصيام مدرسة روحية لتهذيب النفس. وتوجيهِ السلوك. وتدريبِ الجسد والروح على العزائم. لا يكون ذلك بقوة الأمر والنهي. ولكن بالحب والطاعة المختارة. بل بالشوقِ الذي لا حدود له. فقبل أن يفد الشهر الكريم بأشهر. تتطلع النفوس المؤمنة بلهف شديد إلى هلال رمضان. فإذا هل بالبركة والأمان تبادل المسلمون التهاني بينهم. وكأن العيد قد حل قبل أوانه. فيا طيبَ روائحِ تلك التباريكِ الفَرِحةِ وهي تعطر الأفواهَ الصائمة. والمجالسَ العامرة. مصحوبةً بابتسامة الرضا والقبول والتسليم.
عندها ترسخ في نفس المسلم عزيمةٌ ثابتة لا يتطرق إليها أدنى تردد: أن تستقيم على هدي الله تعالى وهدي رسوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في كل شؤون هذه العبادة، مهما تعارضت مع الهوى الشخصي، والرغبة الخاصة، وهذا هو ميدان ترويض مُهرة النفس الشموس على خُلُق الإرادة. وتحقيق المراد دون ضعف أو تخاذل. وهو درسٌ لا تقتصرُ حاجتنا إليه في رمضان فقط، بل في جميع لحظات حياتنا حتى نلقى ربنا تعالى.
فما أحوجنا إلى الإرادة الراسخة حين تعرض علينا رشوة مغرية لإبطال حق أو إحقاق باطل. وما أحوجنا إلى الإرادة القوية حين نُدعى إلى مجلس فحش، أو مصاحبة رفقة سوء، وما أحوجنا إلى وقفة شامخة حين تستذلنا إيماءةٌ من شهوة دنيئة!!
إننا حين نرفض كل دعوة إلى انحراف، فإننا نرتفع بمستوى إنسانيتنا إلى السمو الذي أراده الله تعالى لها لعباده المؤمنين. فلله الحمد كله أن جعلنا مسلمين. وله الحمد حين من علينا أن نثني ركبنا بين يدي رمضان نتعلم منه شيئًا مما يعيننا على كسب إرادة تحررنا من قيود شهواتنا، مختارين حامدين شاكرين، ونسأله تعالى أن يتم علينا نعمته، فيبلغنا صيام هذا الشهر وقيامه، والتعبدَ له بكل ما يحبُّ ويرضى.
عباد الله التائب من الذنب كمن لا ذنب له. توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى /
الحمد لله على إحسانه. والشكر له على عظيم فضله وامتنانه. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد
فيا أيها الأحبة اتقوا الله، وأطيعوه، واستثمروا هذا الشهر المبارك في تربية أولادكم، وأهليكم، علموهم فضله. وأدخلوا عليهم السرور بحلول وقته، وبينوا لهم ما أعده الله للصائمين فيه.
أليس جديرا بنا ـ كما نهرول للمحلات التجارية لنشتري ما نحتاجه من المواد الغذائية لإفطارنا ، أن نعد برنامجا يوميًّا لأولادنا وزوجاتنا. بل لآبائنا وأمهاتنا إذا كنا معهم في بيت واحد. يشتمل على قراءة القرآن الكريم، وتدبر معانيه، وقراءة بعض الأحاديث الشريفة والسيرة النبوية العطرة، كما يشمل زيارة الأرحام، والإكثار من ذكر الله تعالى في كل الأحوال، والتذكير بالطاعات والنوافل في كل آن.
أليس جديرا بنا أن نتابع حضورهم للصلوات في المساجد، بدل أن يجلس الكبار في المسجد يمسكون بالمصاحف. وأولادهم تحت بطانياتهم قد فاتتهم الصلوات تلو الصلوات.
رمضان مدرسةٌ للتعلم والتعليم، رمضان فرصة للتوبة والإنابة، رمضان محطةٌ للتزود بالطاعة والنوافل في زحمة غفلات الحياة في سائر العام، رمضان خلوةٌ مع الخالق. وبعدٌ عن بهارج الحياة.
فلنعظم اللهَ تبارك وتعالى في نفوسنا، ولنكرم ضيفَنا الذي يطرق الأبوابَ بالطاعات، والبعد عن المعاصي مهما كانت حبيبة لنا. عسى اللهُ أن يعمنا بعظيم رحمته وواسع مغفرته وجميل حلمه. إنه جواد كريم.
اللهم بلغنا رمضان. وبلغنا فيه الصيام والصدقة والقيام. وسائر الأعمال الصالحة. وتقبلها منا. واحمنا واحم ذرارينا وأمة الإسلام من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين في الحد الجنوبي خاصة وسائر بلاد المسلمين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين. اللهم آمنا في أوطاننا. واحفظ علينا ديننا وأمننا. وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم. وارزقهم البطانة الصالحة المصلحة. اللهم أيد بالحق إمامنا خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده وأعوانهم بتأييدك، وأعزَّ بهم دينك، ووفقهم لكل ما تحبُّ وترضى.
اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن مدينيهم، واهد ضالهم. وهيء لأمة الإسلام أمرًا رشدا يعز فيه أهل طاعتك. ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمرُ فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا. وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك. وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم. واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين. وصحبه أجمعين. وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.