خطبة الجمعة: (الخبيئة) الصالحة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله – عز وجل -، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ [النساء: 131].
عباد الله، إن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا هي نعمة الإسلام والهداية، وإن العبودية لله تعالى هي أجلُّ علاقة في الوجود على الإطلاق، فهي العزُّ كلُّه، وليس في فقدها غير التذلِ لكل ذليل، والعبوديةِ لكل دنيء.
ومـما زادني شـرفًا وتـيهًا وكدت بأخمصي أطأ الـثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صـيَّرت أحمد لي نـبيًّا
والتعبد للمعبود العظيم، والربِّ الكبير، تعبدٌ ظاهرٌ يطلع عليه البشر، وتعبُّدٌ خفيٌّ يحرص صاحبه على أن يكون بينه وبين ربه تبارك وتعالى، إنها (الخبيئة) الصالحة، لا يعلم بها أحد من الناس، وإنما تكون خالصة لله تعالى، لا رياءَ فيها ولا سمعة.
(الخبيئة) أيها المؤمنون: هي عبادة السرّ والخفاء؛ التي يؤدّيها العبد في خلوته بينه وبين ربّه جلّ وعلا، إنها زاد المسلم في آخرته، يُسِرُّ بها العبد الذي فاض حبُّ الله – عزّ وجلّ – في قلبه، حتى وصل إلى مرحلة إنكار نفسه وإخفاء عمله، يبتغي التجرّد لله سبحانه؛ ليُقبل عملُه، ولذا فهي برهانٌ على صدقه وإخلاصه لله عزّ وجلّ، وعلامةٌ على محبّة العبد لله تعالى ولعلها تدلُّ على محبة الرب لعبده هذا فوفقه للخلوة به، وللعمل الذي يُرضيه، ولها أثرٌ بالغٌ في زيادة الإيمان به؛ إذ إنّ المنافقين لا يستطيعون القيامَ بها، ولا يتقنُها إلّا مؤمنٌ صادقٌ.
قال الله تعالى: ﴿إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٌ لَّكُمۡ﴾ [البقرة: 271]. قال النبي ﷺ: “من استطاع منكم أن يكون له خبءٌ من عملٍ صالحٍ، فليفعل” [صحيح الجامع].
وإن المتأمل في القرآن الكريم يجد أن الله تعالى امتدح الأعمال الخفية، فقال عن عباده الصالحين:
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ لَهُم مَّغۡفِرَةٌ وَأَجۡرٌ كَبِيرٌ﴾ (الملك: 12). وقال في الدعاء: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف].
وفي السُّنة، كان النبي ﷺ يحثّ على العمل الصالح المخفي، ومن ذلك حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، ومنهم: “وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما صَنَعَتْ يَمِينُهُ” [متفق عليه]. ومنه حديث أهل الغار الذين سدته عليهم صخرة عظيمة، لم يزحزحها إلا تضرعهم لله تعالى بخبيئاتهم، برٌ عظيم للوالدين، وحفظ للنفس من الوقوع في جريرة الزنا مع التمكن منها، وحفظ لحقوق الآخرين مع غفلتهم عنه وعدم السؤال عن مصيره.
وهذا نبيُّ الله أيوب عليه السلام: ابتُلي في جسده وماله وأهله، ولكنه كان صابرًا محتسبًا، يدعو الله في السر، حتى قال: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ (84)﴾ [الأنبياء]. {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء]. ونبي الله زكريا عليه السلام: قال الله عنه: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)﴾ (مريم: 3)، فكانت دعوته في خفاء، فأجابه الله ورزقه بيحيى.
وفي غزوة ذات الرقاع، يقول جابر رضي الله عنه من قصة طويلة: “فنزل النبي صلى الله عليه وسلم منزلًا فقال: من رجل يكلؤنا؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال: كونا بفم الشعب، قال فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجريُّ وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل فلما رأى شخصَه عرف أنه ربيئةٌ للقوم فرماه بسهم، فوضعه فيه، فنزعه، حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد، ثم انتبه صاحبه فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدم [وفي رواية: الدماء]، قال سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى؟ قال: كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها” [سنن أبي داود (1\ 90) وحسنه الألباني رحمه الله].
يستمر في صلاته والأسهم تنوش جسده، وتقطع أعصابه، وتُنهر دمه، ولولا ثغر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر أن يُحرس، لربما بقي يصلي ولا يراه إلا موالاه حتى يموت!!
وانظر إلى أجر من يحسن صلاته وهو في صحراء وحده لا يراه إلا الله تبارك وتعالى، في هذا الحديث الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم: “صلاةُ الرجلِ في جماعةٍ تَزِيدُ على صلاتِهِ وحْدَهُ خَمْسًا وعشرينَ درجةً، وإنْ صَلَّاها بِأرضِ فلاةٍ ، فَأَتَمَّ وُضُوءَها ورُكُوعَها وسُجُودَها؛ بَلَغَتْ صلاتُهُ خمسينَ درجةً”.
وكان محمد بن سيرين يصوم كثيرًا دون أن يشعر به أهل بيته، فقد كان يأخذ طعامه إلى السوق ويدّعي أنه أكل هناك، ولكنه في الحقيقة كان صائمًا.
يقول الحسن – رحمه الله -: “إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في سرٍّ فيكون علانية أبدًا”، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم عز وجل.
وفي زماننا هذا، نجد بعض الناس ممن يقومون بأعمال عظيمة لا يعلم بها أحد، كمن يتكفل بالأيتام سرًا، أو من يبني مسجدًا دون أن يعلن اسمه، أو من يسدد ديون المحتاجين في الخفاء، بل وقفت على من يبذل الملايين للجمعيات الخيرية الرسمية، وفي الأوقاف النافعة، ويشترط عدم ذكر اسمه.
عباد الله، لنحرص على أن يكون لنا بيننا وبين الله عبادات خفية، سواء أكانت صلاةً في جوف الليل، أم صدقةً لا يعلم بها أحدٌ إلا الله، أم دعاءً في ظهر الغيب لأئمة المسلمين وعامتهم، أو صيامًا لا يعرفه الناس، أم طلبًا للعلم ونشرًا له، حتى نكون من أولياء الله الذين قال عنهم: ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]. اللهم ارزقنا أعمالًا صالحةً خفيةً تقربنا إليك، وأعنا على الإخلاص في القول والعمل، ووفقنا لما تحب وترضى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية: (الخبيئة) الصالحة وأثرها على العبد
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فاتقوا الله واعلموا بأن كيف أن (الخبيئة) الصالحة سمة من سمات الأنبياء والصالحين، فكيف نحرص عليها؟
أيها الإخوة الكرام، إن الإنسان بطبيعته يحب أن يُعرف بعمله الصالح، لكن المؤمن الحق يسعى إلى رضا الله، لا إلى رضا الناس. ولكي نحافظ على (الخبيئة) الصالحة في حياتنا، هناك بعض الوسائل التي تعيننا على ذلك: إخفاء العبادات ما أمكن، وإذا فعلتها، فحاول أن تكون سرًا، بينك وبين الله، مجاهدًا نفسك التي ترغب أن يعرف الناس العمل لتحصلَ على الثناء العاجل.
• قال بعض السلف: “إخفاء العمل أشدُّ على النفوس من العمل نفسه”؛ لأن النفس تحب أن يُعرف عنها الخير. لكن علينا أن نذكر أنفسنا دائمًا بحديث النبي ﷺ: “مَن سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ به، ومَن يُرائِي يُرائِي اللَّهُ بهِ” [متفق عليه].
ولتكثر من العبادات التي يمكن إخفاؤها حتى تعتاد ذلك، فتكون سريرتك خيرًا من علانيتك.
واحرص على أن يكون لك وردٌ خفيٌّ لا يعلمه أحد إلا ربُّك، وعبادةٌ خاصةٌ لا يطلع عليها غيرُ الله تبارك وتعالى.
عباد الله، وللخبيئة جملةٌ من الفضائل والثمرات في الدنيا والآخرة؛ فهي سببٌ في إعانة العبد على الثبات في المحن والشدائد، وإعانته على نفسه في البعد عن الرياء والسمعة، كما أنّها تكون أكثر أجرًا وأعظم أثرًا، وهي رصيدٌ للعبد في وقت الأزمات، ووسيلةٌ لطهارة القلب وصلاحه. بل هي نورٌ في القلب وثبات عند الفتن، قال النبي ﷺ: “تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة” [رواه أحمد]. فالعبد الذي يكون له سر من العبادة، فإن الله يثبته عند الأزمات، ويُحسنُ خاتمتَه، كما ظهر ذلك في خواتيم حياة كثير ممن عرفوا بالخبيئات، حين اقتربت آجالهم، وظهرت آثار بركتها عليهم.
وإن الخبيئات سبب من أسباب محبة الله لعبده، قال النبي ﷺ: “ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَنِيَّ، الخَفِيَّ” [رواه مسلم]. فكلما كان العبد يخفي عبادته، كان أقرب إلى محبة الله تعالى.
وللخبيئات أسبابٌ في البركة في الحياة، يقول بعض العلماء: “الذنوب الخفية تهلك العبد، والطاعات الخفية تحيي قلبه”، وكما أن ذنوب الخلوات من أسباب الانتكاسات، فإن صالح الخبيئات من أسباب الثبات.
تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: “فقَدْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي علَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وهو في المَسْجِدِ وهُما مَنْصُوبَتَانِ وهو يقولُ: اللَّهُمَّ أعُوذُ برِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وبِمُعَافَاتِكَ مِن عُقُوبَتِكَ، وأَعُوذُ بكَ مِنْكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كما أثْنَيْتَ علَى نَفْسِكَ” [رواه مسلم]. يصلي ـ بأبي هو وأمي، وزوجته إلى جواره لا تعلم به.
ولقد ضرب ثلةٌ من السلف، وصالح الخلف أروع الأمثلة في هذا الأمر، فهذا رجل من السلف كان يصلي بالليل أربعين سنة ولم تعلم به زوجته، وتلك امرأة عجوز كانت تتكفل بأيتام الحي دون أن يدري أحد، ولم يعرف الناس بذلك إلا بعد وفاتها، وذاك تاجرٌ كان يسدد ديون الفقراء سرًا، ولم يعرفه الناس إلا بعد وفاته.
عباد الله، لا يزال باب الخير مفتوحًا، فلنحرص على أن يكون لنا عمل لا يعلمه إلا الله، فهو زادنا ليوم نلقى الله فيه. قال تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ (المزمل: 20).
اللهم اجعل لنا خبيئة صالحة تنفعنا يوم نلقاك، وأصلح سرائرنا كما أصلحت علانيتنا، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين في بلادنا هذه خاصة وفي كل مكان، اللهم وحد صفوفهم، واجمع كلمتهم، وسدد رميهم، ودافع عنهم، وأيدهم بجنود من جندك، ونصر من عندك، وتقبل شهداءهم، اللهم ارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم وفق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهد وأعوانهم لما تحبُّ وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن مدينيهم، واهد ضالهم، وهيء لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.