الصدقة ظل المؤمن

الحمد لله الغني الكريم، المستغني بذاته عن خلقه، المعطي فلا مانع لما أعطى، والمانع فلا معطي لما منع، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا، أما بعد فأوصيكم ـ عباد الله ـ بتقوى الله وطاعته، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين”.

أيها الأحبة، هل سمعتم بسحابة تخص واحدا من الناس فتسقي زرعه دون جاره؟ أيعقل ذلك؟ وإذا حدث فلماذا تخصه دون غيره؟!

جاء في صحيح مسلمٍ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ [يعني: في أرضٍ ذات حجارةٍ سُودٍ كثيرة] فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ [منزلق لسيل الماء] قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ [يريد أن يعرف نهايته إلى أين]، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ

الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ [يُرتِّب دخول الماء إلى أرضه بآلته!]، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ؟! قَالَ: فُلَانٌ – لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ – فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟! قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا؛ فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ”.

إنها عجائبُ الصدقة وما أدراكم ما الصدقة؟! منبعُ البركة، جالبةُ النعم، دافعةُ النقم، بإذن ربها، إنها التجارة التي لا تحتمل الخسارة، أرباحُها لا تعرف إلا الزيادة!! لأنها مع الله الكريم العظيم سبحانه، أقلُّ نِسبة يخرجُ بها الباذلُ مِن هذه التجارة؛ هي سبعُون ألفًا في المائة من الأرباح الخالصة! أَلَم تسمع قول الله سبحانه: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ؟ [البقرة: 261-262].

إنها الصدقة – أيها الأحبة -، كم لها مِن أسرارٍ عظيمة وآثارٍ كريمة؟!

أولُّها: أنها مُنَمِّيةُ الأرزاق ومُكثِّرةُ الخيرات ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 276].

الصدقة: هي التي تُكفِّر لغو البيع والتجارة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، إِنَّهُ يَشْهَدُ بَيْعَكُمُ الْحَلِفُ وَاللَّغْوُ؛ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ” أي امزجوه بالصدقة. رواه النَّسائي وصححه الألباني.

الصدقة: هي التي تُطفئ نارَ الخطيئة، وما أكثرَ خطايانا أيها الإخوة! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ” رواه الترمذي وغيرُه، وصححه الألباني. لا يزال العبدُ في حِلمِ الله سبحانه مادام يتصدَّق في سِرّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صدقة السِّر تُطفئ غَضبَ الرب، وصِلةُ الرَّحِم تزيد في العُمر، وفِعلُ المَعروف يَقي مَصارعَ السوء” رواه الطبراني وحسّنه الألباني.

الصدقة: هي الشافعة الراحمة لأهل التقصير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ! تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ … تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ!” رواه البخاري.

الصدقة: مِن مُكفِّرات الافتتان بالأهل والمال والنفس والعيال، والمراد بالفتنة هنا الميلُ عن الاعتدال في التعامل مع هذه النِعمة؛ بالإفراطِ الزائد فيها أو التفريطِ عنها، وكلاهما لا يُرضي اللهَ جلّ وعلا، فتأتي هذه الصدقة مُكفِّرة لهذه الفتنة، يقول حذيفةُ رضي الله عنه: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ؛ يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ” رواه مسلم.

الصدقة: -أيها الكريم ابن الكرام- بابٌ لحياتك بعد موتك؛ كيف ذلك؟ بأن تكون أعمالُك الصالحة مستمرةً جارية، وأنتَ تحتَ الأرض مقطوعٌ عن العمل! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ” رواه مسلم. ولذا هي أوَّلُ ما يتمناه العبد بعدَ مماته لو رجع إلى حياته ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: 10].

صدقتُك: – أيها الفَطِن – ظِلُّكَ الآمن يومَ تدنو الشمسُ من العباد! فاختر مقدارَ ظِلّك من الآن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ -أَوْ قَالَ: يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ”، “وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ [أحدُ رواةِ الحديث] لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إِلَّا تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ؛ وَلَوْ كَعْكَةً أَوْ بَصَلَةً أَوْ كَذَا!” رواه أحمد وصحّحه الألباني. ومَن أخفى صدقته كان من السبعة الذين “يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ” متفق عليه.

صدقتُك هذه: – يا عبدَ الله – تَقِيك النار، ولو كانت أقلَّ مقدار! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “…اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ!” أي: بنِصف تمرة! رواه البخاري ومسلم.

ومِن عجيب الأخبار في هذا الباب، ما روته أمُّنا عائشةُ -رضي الله عنها- قالت: “جاءتْني مسكينةٌ تحمِلُ ابْنتَينِ لها، فأطعَمْتُها ثلاثَ تمراتٍ. فأَعطَتْ كلَّ واحدةٍ منهما تمرة، ورَفَعَتْ [الأمُّ] إلى فِيها تمرةً لِتأكُلها، فاسْتَطعَمَتْها ابنتاها، فشَقَّتْ التمرةَ التي كانت تريدُ أن تأكُلَها بينهما، فأعجبني شأنُها!

فذكرتُ الذي صَنَعَتْ لِرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “إنَّ اللهَ قد أوْجَبَ لها بها الجنةَ، أو أَعتَقَها بِها مِن النار!” رواه مسلم.

إنّ الجَنةَ تُناديك أيها المُتصدِّق! تَشهَدُ لَك بالخير، تفتحُ بابها لك.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ … فمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ” رواه البخاري ومسلم. – نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم -.

أيها الكرام: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: “وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ”؟ أي برهانٌ على صحةِ إيمانك ومحبتِك لربك، لأنه كيف يُخرِج العبدُ مِن ماله ما يُنقِصه؛ وهو يعتقد أنّ إخراجَهُ يزيدُه؟! إلا لِكونه مُؤمنًا بربِّه، مُوقِنًا بِغَيبه، مُصدِّقًا لِوحيه.. فهو القائل جلَّ جلالُه: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ 34/39]. وهو القائل تعالى في الحديث القدسي:”أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ” رواه البخاري

ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ” رواه مسلم. لا يمكن أن ينقص المال بسبب الصدقة! بل يزيد.. ويكفيك، أن ملائكةَ الرَّحمن؛ تؤيِّدك بالدعاء منذ الصباح! قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : “مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا” رواه البخاري ومسلم.

وإذا خَرَجَتْ منكَ هذه النَّفقَة؛ فقد وَجَبَتْ لكَ الـمُعاوَضَة، ولكن على أضعافٍ مضاعفة، لأنك تتعامل مع الكريم سبحانه! ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245] وتأمّل هذه العبارة: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ كأنك أنت المُقرِض! واللهُ هو الآخِذ.

ولذا قرأنا لبعض السلف أنه كان يُعطِّرُ دراهمه قبل أن يتصدَّق! يقول: لأنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير!! وهذا مِن جمال الأدب مع الربِّ تبارك وتعالى.. ومَن عاش بهذا الفهم كان كحال القائل: “لو عَلِمَ المُتصدِّق ما لَه عند الله؛ لكانت سعادةُ المُعطي أكثرَ من سعادة الآخذ”، لأنه في الحقيقة إنما ينفعُ نَفسَه.

هُوَ اليَمُّ مِنْ أَي النَّواحي أتيتَهُ فلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُهْ

تعوَّدَ بسط الكفِّ حتى لو انَّه

ثناها لقبضٍ لمْ تُجبهُ أنامِلُهْ

ولو لم يكنْ في كفِهِ غيرُ روحِهِ

لجادَ بها، فليتقِ اللهَ سائلُهْ

يقول الحقُّ سبحانه: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ . وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ . وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 272].

أخي الحبيب: كل ما أخرجتَهُ لله فهو محفوظٌ عند الله، استثماراتك في ودائع الله لا تضيع، بل تأتيك بعجائب الأرباح! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ -وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ- إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ! كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ” رواه البخاري ومسلم. والفَلُوُّ: وَلَدُ الخيل، والفصيل: ولد الناقة.

وعلى هذه الحقيقة الغَيبِيَّة ربّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه، فقال صلى الله عليه وسلم: “أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ! قَالَ: “فَإِنَّ

مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ!” رواه مسلم. (فإنَّ مالَه ما قدَّم) أي: ما صرفه في حياته في الخير، (ومالُ وارِثِه ما أخَّر) أي: ما ادّخره لنفسه ثم مات وصار إلى ورثته!

ولذا كانوا يُقدّمون أحبَّ ما لديهم لله ليبقى لهم، فهذا أَبُو طَلْحَةَ رضي الله عنه كان أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ [عَذْب]، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ!! قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( بَخٍ، بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ!! …)) رواه البخاري ومسلم.

أيها الموفقون: بعد هذه الفضائل العظيمة نُدرك حقيقةً بأننا جميعًا بحاجة لبذل الصدقة، كُلُّنا -الكبير والصغير، الغني والفقير- بحاجة إلى إخراج الصدقة، إذا كانت نصفُ التَّمرة تَقِي صاحبَها النار! وتأتيهِ في الثواب أمثالَ الجبال؛ فكيف بما فوقها مِن المال؟ ومن منّا لا يستطيع إخراجَ نِصفِ تمرة؟! ولكن العِبرة -أيها الأحبة- بإخلاصِ العطاء، ومقدارِ هذا المال مِن استطاعة الإنسان؛ ولذلك قد يتصدقُ الفقير بأقلّ مِن الغني بكثير؛ ولكنّه -أي الفقير- عند اللهِ أعظمُ وأكرَم، اسمع هذا الحديث العجيب! يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ)) قَالُوا: وَكَيْفَ؟! قَالَ: ((كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ؛ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا [يعني نصف ماله!]، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ [واسع ماله]، فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا” رواه النَّسائي وحسّنه الألباني. {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} [سورة إبراهيم 14/31].

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من البيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله واهب النعم لمن يشاء، من توكل عليه كفاه، ومن سأله أعطاه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد، فاتقوا الله وأطيعوه، أخي الكريم: ونحن نعيش في هذه الأيام الباردة!

تذكَّرْ.. وأنتَ ترفع إلى فمك اللُّقمة؛ بأنّ لك أخًا يتضوّرُ جوعًا، وحينما تأوي ليلاً إلى فِراشِكَ الدافئ وغِطائِكَ الهانئ، وأنتَ بين هذه الجدران الواقية والأسوار الساترة؛ بأنّ لك أخًا وأختًا وأبًا وأمًّا وابنًا وبِنتًا؛ باتوا وأغطيتُهم رياحُ السماء.

تذكّر.. حينما تحتار في أيِّ مَلبَسٍ ستلبَسُ اليوم! وقد امتلأتْ خِزانتُك بملابس لم تتحرك منذ أشهُر؛ بأنّ هناك نُفُوسًا كانت تتوق إلى قطعة واحدة منك! تحفظُ بها حياتَها، تَشُدُّ بها عودَها، تُخفّفُ مِن رجفةِ عظمها.

يقول نبيُّنا نبيُّ الرحمة صلى الله عليه وسلم: “المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ” رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: “أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم, وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشفُ عنه كربة، أو تقضِيْ عنه دَينًا، أو تَطردُ عنه جوعا..” رواه ابنُ أبي الدنيا في قضاء الحوائج وحسَّنه الألباني.

ويُروى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: “أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ؛ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَإٍ؛ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ؛ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ” رواه أحمد والترمذي وغيرهم.

وتأمّل هذا الخبر! جاء في صفة الصفوة: أنّ رجلاً مِن أهل الشّام قَدِم فقال: دُلُّوني على “صفوان بن سُلَيم” فإني رأيتُه دَخَل الجنة! [يعني في رؤيا المنام] فقيل له: بأيِّ شيء؟! قال: بِقميصٍ كساهُ إنسانًا..

فسُئِلَ صفوانُ عن قِصَّةِ القميص؟ فقال: (خرجتُ مِن المسجدِ في ليلةٍ باردة، فإذا رجلٌ عارٍ؛ فنَزَعتُ قميصي فكسوتُه..) .. تأمل ـ يا رعاك الله ـ ربما بقميص دخل الجنة!!

فأروا الله – عبادَ الله – مِن أنفسكم خيرًا، وقدموا مِن دنياكم ما يَرجِعُ بالخيرات لكم، فما أكثرَ المحتاجين في هذا الأيام، وما أكثرَ المُشرَّدين في العراء، وما أكثرَ الجَوعى في هذا الشِّتاء، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم يقول: “الراحمونَ يَرحمهم الرحمنُ – تبارك وتعالى – ارحموا مَن في الأرض يَرحَمْكم مَن في السماء”. -رحمني الله وإياكم برحمته، وكشف الكروب والمِحَن عن أُمّته، واستعملنا في طاعته ومرضاته، وسخّرنا لخدمة عباده-.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين في الحد الجنوبي وفي كل مكان، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.

ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، سبحان الله على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، اللهم ارفع عنا الجوع والجهد والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه

إلا أنت. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا ، فأرسل السماء علينا مدرارا، اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين. اللهم ارحم الأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع، وارحم الخلائق أجمعين.

اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وسائر بلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم رد عنا كيد الكائدين، وعدوان المعتدين، واقطع دابر الفاسدين والمفسدين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيد خادم الحرمين الشريفين وولي عهده بالحق وأيد الحق بهما، واجمع بهما كلمة المسلمين على ما تحب وترضى.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً