الغضب

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، كما أمرنا بذلك الله جل وعلا في كتابه العزيز فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

أيها الأحبة في الله: كثيرًا ما نذم الأخلاق الذميمة، وننفّر منها الآخرين، وننتقدهم بها، ولكن ذلك يكون منا ونحن بعيدون عما يستدعيها من أسباب، فكلنا يحفظ حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه لرجل طلب منه الوصية: “لا تغضب”، فَرَدَّدَ مِرَارًا.. قَالَ: “لا تَغْضَبْ” (رواه البخاري).

إن مثل هذا الحديث نتذكره ونحن في حالتنا الطبيعية، فإذا استُغضب أحدنا نسيه، واستجاب دون تروٍّ لضغط الغريزة، وفقد السيطرة على نفسه، واندفع ينفّس عن هذا الغضب بلسانه ويده، فإذا انزاحت سحابة الموقف، ورجع إلى نفسه وجد أنه كسر ما لا يجبر، وخرق ما لا يُرقع، وربما طلق امرأته، وضرب أولاده، وربما استقال من عمله، وربما هدم علاقاته بأصدق أصدقائه:

إن النفوس إذا تنافر ودّها *** مثل الزجاجة كسرها لا يجبر

ذكر البخاري في تفسير قول الله -عز وجل-: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ) [يونس: 11]، قول مجاهد: “أنه قَوْلُ الْإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ: اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكْ فِيهِ وَالْعَنْهُ (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) لَأُهْلِكُ مَنْ دُعِيَ عَلَيْهِ وَلَأَمَاتَهُ”. فانظر إلى أي حد يمكن أن يصل الغضب.

ويكفي الغضب مذمة قول بعض السلف: “أقرب ما يكون العبد من غضب الله -عز وجل- إذا غضب”.

إن كثيرًا من الناس يدَّعِي قوة الشخصية، وصلابة المراس، واكتمال الرجولة، ولكنه ينهار عند أول موقف يستفز أعصابه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ” (رواه البخاري في صحيحه).

ويرجع الغضب الزائد كما يقول رتشارد نيكسون في كتابه لا تهتم بصغائر الأمور في موضوع: لا تغضب: “إلى ردود أفعالنا الاعتيادية على أحداث تقع خارج نطاق سيطرتنا”، أي أننا نقع تحت تأثير تصرفات لا نملك نحن إيقافها أو تغييرها؛ لأنها تصرفات غيرنا في الغالب، ولذلك ليس أمامنا إلا أن نكون أكثر حزمًا مع أنفسنا بأن لا نعرِّضها لتغيير مشين يبدأ بشكل الوجه وينتهي بإصدار أفعال أو قرارات قد يعقبها ندم شديد، وخرق واسع، لا يمكن ترقيعه.

الغضب ريح تهب على سراج العقل فتطفئه، ونار تشتعل في القلب فتحرقه، ومرض يستشري في البدن فيتسلط على عروقه ومفاصله فيهلكه. وإن زيادة أمراض الضغط والسكر والغدة الدرقية لدى كثير من الناس اليوم لأثر من آثار هذا الخلق الذميم.

وكبت الغضب من صفات المؤمنين العالية، التي امتدحهم الله تعالى بها فقَال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37]، وَقَال -عز وجل-: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].

فهو من سمات الأتقياء، وليس من سمات الرجولة والشجاعة كما يروّج بعضهم، فإن معظم دواعيه من الكبر والعجب بالنفس، والغطرسة على الخلق، وحب الدنيا.

أخي المسلم الحبيب: لا تقل أنا غضوب، ولا أستطيع أن أقلع عن هذا الخلق، فإن الحلم بالتحلم والعلم بالتعلم، ومعنى ذلك أننا يمكن أن نتعلم الحلم ولو لم يكن من طباعنا، ومن الوسائل الناجعة لتغيير طبع الغضب في النفس: تدريب النفس على كبت شرارة الغضب قبل أن تكون نارًا، مثل أن تقرر عدم الاستجابة السلبية للموقف الحادث أمامك منذ بداية حدوثه أو بعده مباشرة، وتأمل هذا الموقف: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: -أي رسول الله-: “مَهْلاً يَا عَائِشَةُ! عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ” (رواه البخاري).

فالرسول يوجّه عائشة ألا تغضب من قوم يستحقون الغضب عليهم، حتى لا يكون ذلك طبيعة في الإنسان، بأن يستجيب لكل من يستغضبه، فيسب ويشتم. وإن تهيئة النفس للمواقف الصعبة المثيرة لنار الغضب، وتوقعها قبل أن تحدث، مما يجعل وقعها غير مفاجئ، ولا مثير، وهو ما كان يتوقعه الرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء اليهود.

وإن من أنجع أدوية الغضب ذكر الله، (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [يونس: 28]، والعفو عند القدرة، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 134]، وطلب المثوبة واحتساب الأجر، فقد قال أبو الدرداء للرسول صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: “لا تغضب، ولك الجنة” (رواه الطبراني وصححه الألباني).

وتحذير النفس من عقوبة الله إذا تحول الغضب إلى محاولة الانتقام من الضعفاء، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، وتحول الغاضب إلى حال غير الحال التي كان عليها، كجلوس القائم، واضطجاع الجالس، والوضوء؛ ليطفئ به نار الشيطان. والسكوت، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “إذا غضب أحدكم فليسكت” (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني).

والصبر بعد أن يكون داعي الغضب عظيمًا، مع قدرة الإنسان على الانتقام ممن أغضبه؛ من أعلى درجات الحلم، وقد كان ذلك شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فعن عَبْد اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: “إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ، فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: “يَرْحَمُ اللَّهَ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ” (رواه البخاري).

والاعتراف بالحق فضيلة كما يقال، وإن هذا الاعتراف ليطفئ نار الغضب عند الآخرين ولو بعد حين، فهذه محاورة تشتد بين الصديقين العظيمين أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رضي الله عنهما-، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ -أي: سَبَقَ بِالْخَيْرِ-.

قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْخَبَرَ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، إِنِّي قُلْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ” (رواه البخاري).

ومن العجيب أن نرى بعض الناس يرى الخصومات تشتد، والأصوات تعلو، ومع ذلك فإنه لا يتدخل لإصلاح سريع، ولا يأمر ولا ينهى، بل يبقى متفرجًا حتى يرى ما يكره رؤيته المؤمن من فحش وقطيعة، وإن تذكير الغاضب بالحلم ساعة الغضب مطلب عظيم يدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهنا يجب على من يذكر أن يَتذكر وينيب، لا أن يكابر ويستمر في غضبه، فقد اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالَ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ. فَقَالَ: أَتُرَى بِي بَأْسٌ أَمَجْنُونٌ أَنَا اذْهَبْ” (رواه البخاري).

فإن هذا الرجل لم يستجب لأخيه، فوقع في محذور عظيم وهو عدم طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكن انظر إلى أبي بكر حين أخذه الغضب، فلما تذكر رجع عن كل أيمانه التي عقدها ساعة غضبها، قَالَ ابنه عَبْدُ الرَّحْمَنِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- “جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِضَيْفٍ لَهُ أَوْ بِأَضْيَافٍ لَهُ، فَأَمْسَى عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ لَهُ أُمِّي: احْتَبَسْتَ عَنْ ضَيْفِكَ أَوْ عَنْ أَضْيَافِكَ اللَّيْلَةَ، قَالَ: مَا عَشَّيْتِهِمْ؟ فَقَالَتْ: عَرَضْنَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا، أَوْ فَأَبَى، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَسَبَّ وَجَدَّعَ وَحَلَفَ لَا يَطْعَمُهُ، فَاخْتَبَأْتُ أَنَا، فَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَحَلَفَتِ الْمَرْأَةُ لَا تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ فَحَلَفَ الضَّيْفُ أَوِ الْأَضْيَافُ أَنْ لَا يَطْعَمَهُ أَوْ يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّ هَذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا فَجَعَلُوا لَا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ وَقُرَّةِ عَيْنِي إِنَّهَا الْآنَ لَأَكْثَرُ قَبْلَ أَنْ نَأْكُلَ فَأَكَلُوا وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا” (رواه البخاري).

لقد عاد إلى الصواب، وغفر، فأكرمه الله بهذه الكرامة لساعته، وهي البركة في الطعام، حتى صار يكثر في الإناء وهم يأكلون منه.

وهذا عمر الذي عرف بأنه كان وقّافًا عند كتاب الله، يخبر ابْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ” (رواه البخاري).

فعلى المسلم أن يصغر في نفسه كل ما يضخمه الشيطان من مواقف الآخرين المثيرة للغضب الشخصي، وربما من الوسائل النفسية الناجعة التي يوصي بها النفسيون: أن تكتب كل غضباتك صغيرها وكبيرها وأسبابها، وأوقاتها وآثارها، حتى تستدل على أثرها السيئ جدا في حياتك، وترى كيف تحكمت فيك التوافه، وغيّرت مسار عقلك وتفكيرك، فتتخفف منها شيئًا فشيئًا حتى تضمحل وتمحى.. المهم أن تقرر أن تترك الغضب نهائيًّا، وتتوكل على الله تعالى..

أخي المسلم.. لقد جرب الأكياس مثل هذه الوصفات التي سردتها عليك ونجحوا.. فجرِّب أنت وسوف تنجح بإذن الله.

عباد الله التائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ توبوا إلى الله واستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فإن سرعة الغضب رذيلة شريرة إذا استشرت في مجتمع، قوّضت بنيانه، وهدمت أركانه، ففشا فيها الشقاق، وتقطعت العلاقات، وتخلخلت الأسر.

وقد رأينا وسمعنا قصصًا مروعة، ربما انتهت بالقتل أو تشويه الآخرين، كل ذلك بأسباب ربما تكون تافهة، أو حتى قوية، فإن الغاضب إذا استسلم لغضبه لا يتصرف بعقله، وإنما بغريزته، فيسارع إلى الانتقام الأشد الذي يشفي غليان الدم في صدره، ولذلك نجده يندم على فعله إذا ثاب إلى رشده.

وقبل أن أغلق هذا الموضوع أود أن أبين بأن من يفقد حاسة الغضب تمامًا، حتى في المواطن التي يجب فيها أن يغضب، فإنما ينم ذلك عن برود في الأعصاب، وضعف في الشخصية، يفقد معهما معاني الغيرة والعزة، فيرضى بالذل، ويقبل الإهانة، وليس المسلم كذلك. ولكن الإفراط فيه مذموم أيضًا، فبه يخرج الإنسان عن سياسة العقل والدين والطاعة، ولا يبقى للمرء معه بصيرة، ولا نظر، ولا فكرة، ولا اختيار.

وإن من أجلِّ الغضب المحمود: الغضب إذا ارتُكبت محارم الله، مع الاحتفاظ بالعقل والتمييز والحكمة في التصرف، ومن الدعاء الوارد: “أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا” (رواه أحمد في مسنده).

وذلك شأن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، الذي لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب لمحارم الله، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَهْدَى إِلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُلَّةَ سِيَرَاءَ (مخططة بالحرير)، فَلَبِسْتُهَا فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي. (رواه البخاري).

وذلك غضب لله الذي يغضب إذا انتُهكت محارمه، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَ مَالَ رَجُلٍ أَوْ قَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ”.. الحديث (رواه البخاري).

نعوذ بالله من غضب الله، ونسأله أن يمن علينا بالحلم والعلم.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.