تقبل السجين بعد خروجه


الخطبة الأولى: 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا عباد الله.. أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، استجابة لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]،  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

أيها الإخوة المسلمون.. يخطئ الإنسان، و”كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون”، ويذنب العبد، ومن طبيعة العبد أن يذنب، وكلنا مذنبون، وخير المذنبين المستغفرون.

ومن طبيعة الحياة أن يوجد فيها من تزل به القدم، فيخرج عن السمت الصحيح، ويندّ عن الاستقامة على الطريق السليمة، فيقع في الإجرام؛ فيقتل أو يسرق، أو يشرب الخمرة، أو يعبث بأعراض الناس، أو يتاجر بالمحرمات، وهنا تأتي مسئولية الدولة تحكم شريعة الإسلام الخالدة، لحفظ الضرورات الخمس للإنسان: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فحياة البشر لا تستقيم، وأمورهم لا تنتظم إلا بحفظ هذه الضرورات.

وحين يعتدي إنسان ما على إحدى هذه الضرورات فإن الشريعة وضعت أحكامًا لعقوبة الفاعل وردع غيره، وقد يلجأ القاضي لحبس الجاني؛ تعزيرًا أو انتظارًا لتطبيق حكم شرعي، أو لغير ذلك، فيعيش داخل السجن فترة من حياته تطول أو تقصر، فتتأثر لذلك أسرته، فتكون في حاجة ماسة إلى من يسد خلتها، ويرحم ضعفها، ويلم تشعثها، ويربي أولادها، ويطعم جياعها؛ ولذلك انطلقت مشاريع رائدة ولجان وطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم، وأسرهم لتقدم الرعاية بكافة أشكالها لأسر السجناء المحتاجة والفقيرة؛ تطبيقًا للتكافل الاجتماعي، وللحد من الانحراف داخل الأسرة نفسها في غياب عائلها أو الاتجاه  للجريمة. وبما يكفل اطمئنان السجين على أسرته ماديًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا… إلى جانب تقديم الخدمات التعليمية لأبناء هذه الأسر، وتذليل العقبات التي تواجه سير دراستهم، وتقديم الخدمات الصحية، ومساعدة الأسر غير القادرة على توفير السكن بتأمين السكن المناسب لها. وتعدى دور هذه المؤسسات الخيرية إلى تقديم برامج الأسر المنتجة لضمان مورد مالي لأسرة السجين للعيش منه؛ بدلاً من ترك أسرة السجين لمواجهة الصعاب والعقبات.. وكأنها تعاقب على ذنب لم ترتكبه فالإنسان المجرم مجازى على أفعاله التي اقترفها ولا يمتد العقاب إلى أسرته، يقول الله عز وجل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18].

ولهذا كله أثر كبير في استقرار السجين وتعديله نحو الأفضل. فرعاية أسر السجناء تساعد على نجاح برامج الرعاية الاجتماعية للسجين نفسه وتحَُول بشكل مباشر من دفعه للعودة للجريمة. مرة أخرى بإذن الله تعالى.

إذن إن أسرة النزيل هي الملاذ له والملجأ بعد الإفراج عنه، لذا يجب تهيئتها وإعدادها لاستقبال هذا العائد لها. كما تعتبر الأسرة صلة النزيل الأساسية بالعالم الخارجي؛ إذ إن بقاءه على صلة بها يجبره على الانتماء إليها. 

المجتمع المسلم مجتمع متراحم متماسك، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية، [الفتح: 29]، ويصف الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأنهم كالجسد الواحد، في قوله صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» (رواه البخاري). ومن هذا الأساس الذي يحث على التراحم والرحمة تقوم رعاية السجناء والمفرج عنهم في مجتمع المملكة، حيث الالتزام بتعليمات دينهم الحنيف الحاثة على التراحم والتواد.

أيها الأحبة في الله .. السجين ابن المجتمع، وما وقع منه يمكن أن يقع من أي إنسان آخر اكتنفته الظروف نفسها، ولذلك يجب أن ننظر إليه بعين العدل والإنصاف، فكما أوقعنا عليه العقوبة في السجن، فعلينا أن نتقبله بعد خروجه منه؛ حتى لا نعين الشيطان على نفسه، فليس صحيحًا أن نرمقه بأعين الانتقاص، وليس صحيحًا أن نقفل في وجهه الأبواب، فلا يذهب إل عمل إلا وتطارده التهم السابقة، والسنوات السوداء التي قضاها بين الجدران، وليس صحيحًا أن يُطرَد من وظيفته، فلا يعود إليها أبدًا، مادام قد أراد العودة إلى الصراط السوي، وترك كل ما كان يشوّه سيرته.

وليعلم أن عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة، ومن لم يعاقب في الدنيا نظرًا لتعطل الحد، أو عدم قيام البينة على الفاعل أو عدم إقراره على نفسه بذلك، فالأولى أن يستتر بستر الله عليه، وهو تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، ففي صحيح البخاري من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وحوله عصابة من أصحابه: “تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه”. 

قال ابن حجر: قال القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء إلى أن الحدود كفارات، واستدلوا بهذا الحديث. انتهى. وهذا الذي رجّحه ابن حجر في الفتح، وقد وردت روايات أخرى تصرح بهذا، منها ما رواه أحمد في المسند عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أذنب في الدنيا ذنبًا فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستر الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه. وحسنه الأرناءوط.

إننا حين نرفض السجين، ونطارده بعد خروجه من السجن بأعيننا، ونطرده عن وجوه الرزق السوية المباحة، فإنه لن يتوقف، بل إنه سوف يتجه إلى مكاسب الحرام التي ستقتنصه، وتفرح به، وتوظف طاقته في الشر.

إن السجون يجب أن تقوم بدور مهم للغاية، وهو استثمار وقت السجين في أمرين مهمين: الأول توجيهه للاستقامة في دينه وأخلاقه، وبيان الواقع الذي السيئ الذي كان عليه ليتوب منه ويندم عليه حتى لا يعود إليه، والآخر: هو منحه فرصة تعلم مهنة خلال فترة وجوده في السجن؛ لينطلق إليها في الخارج، فإن أكثر ما يقلق السجين بعد خروجه هو العمل، لذلك كان من المهم تأهيله لمواجهة ما يسمى بصدمة الإفراج بعد خروجه من السجن بأقل أضرار اجتماعية ونفسية ممكنة.

ولنعلم أن الشريعة تنظر للفرد المجرم على أنه يمكن إصلاحه وتهذيبه، وتغيير سلوكه وتعديل انحرافاته، فهي لا تنظر إليه تلك النظرة المتطرفة التي ترى أن الشر متأصل فيه أو أنه غير قابل للتعديل والإصلاح يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

بارك الله لي ولكم في القرآن ونفعني وإياكم بما فيه من البيان، عباد الله التائب من الذنب كمن لا ذنب له، توبوا إلى واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله أجمل المحامد وأعلاها، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله..

إن بعض المجتمعات المحافظة حساسة دائمًا، فبمجرد غياب الأب عن البيت وعن زوجته وأولاده تجعل النظرة سلبية له ولأسرته. وحين يفرج عنه تظل الرؤية غائمة، وقد تنال كل أفراد أسرته، وكان ينبغي أن نصحح النظرة إلى المفرج عنه؛ بأن هذا الشخص فرد من أفراد المجتمع، سلك سلوكًا منحرفًا معينًا، وهذا لا يعني أنه أصبح شخصًا منبوذًا هو ومن ينتمي إليه. وقد نالت هذه النظرة القاصرة مستقبل بعض الفتيات الصالحات من بنات المسجونين؛ إذ يبتعد الخطاب عنهن، وينبذن بسبب خطيئة لم يرتكبنها؛ علمًا بأن عددًا من السجناء ليسوا مجرمين، فهناك من دخل السجن نتيجة لحوادث مرورية، أو التزامات ديون، وربما كانوا مظلومين بوشاية أو اشتباه، فلماذا يوصمون وأسرهم بالعار؟!

كشفت دراسة حديثة بأن غالبية أفراد المجتمع يرفض التعامل مع المتهمين في قضايا المخدرات، حيث بلغت نسبتهم 77،5٪ يليه في الرفض التعامل مع المفرج عنهم في قضايا غير أخلاقية (كالزنا واللواط)؛ حيث بلغت نسبتهم 68،8٪. وتقل النسبة في القضايا الحقوقية فتصل نسبة قبولهم 49،3٪ بل كان هناك 33،2٪ يرحب بالتعامل معهم بل والتماس العذر لهم يليه في القبول الاجتماعي المحكومون في قضايا المضاربة بنسبة 48٪ وفي جرائم القتل الخطأ 40،6٪ والمسكرات 37،1٪ فيما رأى 86،6٪ بوجوب نسيان ماضي الشخص المفرج عنه والتعامل معه بواقعه الحالي كما بينت الدراسة أن (84،7٪) من أفراد المجتمع يرون ضرورة تقبل المفرج عنهم، وهذه النتيجة تعكس توجهه إيجابية نحو تقبل المفرج عنهم من قبل فئة كبيرة من أفراد المجتمع.

ولكن الدراسة توضح أن 51٪ من السعوديين يرفضون تزويج بناتهم من أشخاص قضوا عقوبة السجن في وقت سابق من حياتهم، مما يعكس أن اتجاهات أفراد المجتمع نحو المفرج عنهم تزداد سلبية خاصة عندنا يتعلق الموضوع بالزواج أو العلاقات المباشرة معهم، ولعل ذلك بسبب نظرة المجتمع إلى أن الزواج علاقة بين أسرتين وليس علاقة بين الزوجين فقط. كما بينت الدراسة بأن 46.3% يمانعون تقبل المفرج عنهم كأصدقاء.

وأكدت الدراسات أيضًا أن العقوبات السالبة للحرية تؤثر على أسر المسجونين تأثيرًا سيئًا. فبالنسبة للأبناء يلاحظ انتشار الجنوح بين أطفال الآباء الذين سبق دخولهم السجن أو صدرت ضدهم أحكام، كما أن إحساس الابن أن أباه نزيل السجن يعطي مشاعر عدائية قد تدفع به نحو الجريمة أو الانحراف أو العزلة أو الانسحاب. فالعقوبة وحدها لم تعد كافية إذا لم يواكبها إصلاح للجاني، وإن الإصلاح يستهدف إزالة العوامل المؤدية للإجرام، وأن هذا الإصلاح لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق معاملة الجاني معاملة إنسانية تتفق مع مبادئ الدين الإسلامي، تستهدف إعادة الثقة بالذات إلى نفس الجاني واندماجه في المجتمع بعد الإفراج عنه حتى لا يبقى معزولاً عن الحياة الاجتماعية المحيطة به مع توفير وسيلة الرزق له إذا كانت قد انقطعت نتيجة لعقابه، مع رعاية أفراد أسرته فترة سلب الحرية بتنفيذ العقوبة عليه، حتى لا يزيده القلق عليهم تدهورًا في نفسه، وحتى لا تتعرض هذه الأسر للحرمان أو الفقر أو لطريق الغواية والانحراف.

إن الدين الإسلامي يجمع بين الرحمة والشفقة، بين التأديب والتعزير؛ فرحمته بالإنسان وإحسانه إليه لا يتنافى مع تأديبه وتذكيره وإقامة الحد الشرعي عليه لحمايته من شره، وحماية المجتمع منه.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم بإخواننا في فلسطين والشيشان وكشمير، اللهم رد عنهم كل اعتداء، اللهم أنزل معهم ملائكتك تقاتل معهم وتدفع عنهم، اللهم أطعم جائعهم، واكس عاريهم، وانصر مجاهدهم، وارحم شهيدهم.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، وهيئ لهم بطانة صالحة تذكرهم إذا نسوا وتعينهم إذا ذكروا، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين .

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبد ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً