تنشيط النفوس بعد الفتور في طاعة الله عز وجل


الخطبة الأولى: 

اللهم لك الحمد على سترك الجميل، ولك الشكر على بِرِّك الجزيل، نعترف لك بتتابع الذنوب، وكثرة العيوب، ونخضع لعز كبريائك بالذل والصغار، ونطمع في كنوز عطائك بالعجز والافتقار، ونمدُّ إلى غَنائك أيادي احتياجنا، ونسألك هداك لتسوية اعوجاجنا، فإن المهتديَ من هديتَه سواء السبيل، والضالَّ من أضللته فليس له دليل، كل شيء منك بالتسيير وسبق التقدير، والقلوب بيدك تقلبها كيف شئت وإليك المصير.. 

وأشهد أن لا إله إلا أنت توحدت في عليائك ومُجِّدتَ في كبريائك، وأشهد أن محمدًا عبدك ورسولك، بلّغَ الرسالة وأدَّى الأمانة، وكشفَ الغُمّة ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا..

أما بعد.. فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

عباد الله.. قبل أيام، كنا نتحدث عن دخول رمضان، يزفّ بعضنا لبعض تهانيَ وفوده المبارك علينا، واليوم ينطوي ثلثه كلمحة بصر، وكثير منا لم يقدم فيه من الأعمال الصالحة إلا بعض ما أمَّل وخطَّط قبل قدومه، أخذت الراحة منا كل ما تشاء من الزمن، وأخذت الدنيا كل رغباتها المباحة، وربما غير المباحة، ولم تأخذ الآخرة إلا قليلاً من الوقت، نبذل الساعات الطوال نتبادل فيها الأحاديث الودية بيننا، أو يصرفها بعضنا أمام شاشة التلفاز من كل بلد وجنس ودين، وقد يستكثر بعضنا ساعة واحدة خلف الإمام في صلاة التراويح والقيام، ونعطي وسائل الترفيه كل ما تحب من الزمن، ولكننا ما أعطينا كتاب الله بعض ما يستحق من عناية في شهر القرآن، كما فعلها بعضنا في أول الشهر، ومع ذلك فإنك يا أخي شعرت بفرق ظاهر بين أدائك للعبادة والطاعات في رمضان، وأدائك لها في غير رمضان، إنك تتساءل عن سر خشوعك في الصلاة، وعن تأثر مشاعرك بالتلاوة، وعن دموع عينك عند التضرع والدعاء، وعن الطاقة الجديدة التي تجعلك تصلي وتدعو أضعاف ما تفعل في غير رمضان ومع ذلك لا تشعر بالملل، بل وتتناسى التعب، إنني أحسب أنك وكلنا معك نتساءل بعجب أين نحن من هذا قبل رمضان؟ وأين تمضي هذه المشاعر والمعاني بعد رمضان؟ ومن العلوم أن طاقتك وقوتك البدنية إن لم تضعف بالصيام فلن تزيد، فمن أين إذن جاءتك هذه القوة؟!

إنك تشعر بطعم آخر للعبادة، إنك تذوق لذة المناجاة وتحوز حلاوة الطاعة، فتتمثل قول المصطفى عليه والصلاة والسلام: «يا بلال أقم الصلاة.. أرحنا بها» رواه أبو داود وصححه الألباني، وقوله في الحديث الصحيح: «وجُعلت قرة عيني في الصلاة» رواه النسائي وصححه الألباني، وهي إطلاق بليغ يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يجد فيها طُمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وكمال اللذة، وتمام السعادة، فلا شيء عنده أحبُّ منها، ومن ثم يقبل عليها مشتاقًا، ويخِفُّ إليها راغبًا، ويدخل فيها خاشعًا، فلا يستطيل فيها وقتًا، ولا يستشعر تعبًا، وهذا هو شأن كل محبوب إلى النفس، وكل ذلك مردّه إلى صفاء القلب وخلوصه من الأكدار، وحياته وسلامته مما يمرضه أو يميته، وبراءته مما يطفئ أنواره ويذهب إشراقه.

ومن المعلوم أن كثرة الطعام والكلام والمنام ومخالطة الناس لها آثار سلبية، فكثرة الكلام تدخل في اللغو والثرثرة والقول الباطل، والانشغال عن طاعة الله:

ومما قالت الحكماء يومًا        لسان المرء من نبع الفؤاد

وكثرة الطعام تصيب بالبِطْنَة التي تُذهِب الفِطْنة، وكثرة المنام مظنة الغفلة والتفريط، وكثرة الكلام من أسباب الضياع والتخليط، وكثرة مخالطة الناس بغير حاجة ولا فائدة يحصل بها كثرة في الكلام والطعام، إلى جانب اكتساب بعض الآثام، وكل ذلك له أثره على روحانية المؤمن، وشفافية نفسه، وطهارة قلبه، ونشاطه للعبادة، ولذلك يبدأ المسلم في العبادة نشاطه في رمضان، حين يغيّر من تلك العادات إلى متطلبات الصوم، من تقليل في الأكل والشرب والمنام والراحة والارتباط بالخلق، فإذا اعتاده أيامًا معدودات عاد إلى الإفراط في كل ذلك في الزمن المتاح له، فيعود الفتور مرة أخرى عن العبادة..

أخي المسلم..

إن من هدي رسولك صلى الله عليه وسلم المداومة على العمل الصالح، لما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام عن ورده من الليل أو مرض، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. قالت: وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح. وما صام شهرًا متتابعًا إلا رمضان». فانظر كيف يقضي رسولنا صلى الله عليه وسلم وتره من الليل في النهار؛ ليدوم على هذا العمل، فإن النفس -يا أخي- إذا اعتادت التفريط بأي سبب استلذته واستساغته في العمل، فإذا علمت أنها ستقضيه حرصت على عمله.

وفي الصحيحين عن عائشة أيضًا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبُّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قل».

وللمداومة على العمل الصالح آثار أُجمِلُها فيما يلي:

أولاً: أنها سبب للنجاة من الشدائد، روى أحمد وصححه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة».

ثانيًا: أن المداومة على الأعمال الصالحة سبب لمحو الخطايا والذنوب، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء»؟ قالوا: لا، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا».

والله تعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].

ثالثًا: أنها سبب لحسن الختام، ووجه ذلك أن المؤمن يصبر على أداء الطاعات كما يصبر عن المعاصي والسيئات، محتسبًا الأجر عند الله عز وجل، فيتقوى قلبه على هذا، وتشتد عزيمته على فعل الخيرات، فلا يزال يجاهد نفسه فيها وفي الانكفاف عن السيئات، فيوفقه الله تعالى بحسن الخاتمة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين, وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط, وجعل الخير والفلاح والعزة والنجاة لمن يتبع دينهم، ويستن بسنتهم إلى يوم الدين، وأصلي وأسلم على قرة العيون وطبّ القلوب نبي الله محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد.. فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه، واعلموا بأن من فضل الله تعالى ونعمته الجزيلة أن لا ينسى عبده الصالح الذي كان يداوم على عبادة ثم انقطع عنها بسبب مرضٍ أو سفرٍ أو نومٍ، ففي صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ له مثلُ ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا»، قال ابن حجر معلقً: «هذا في حق من كان يعمل طاعة فمُنِع منها، وكانت نيته لولا المانع أن يداوم عليها».

وفي سنن النسائي وصححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من امرئ تكون له صلاة بليلٍ فغلبه عليها نومٌ، فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه».

ولا شك أن أهل الإيمان هم أهل الدوام على الطاعة، ففي معرض أوصاف المؤمنين يقول تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، فالمنافق أضعف قلبًا من أن يحتمل وطأة المداومة وشدة المجاهدة وأبعد من أن يتلذذ بحلاوتها، أو يشتاق إلى أجرها بعكس المؤمن التقي.

عباد الله.. ومن الأسباب المعينة على الأعمال الصالحة: العزيمة الصادقة على لزوم العمل والمداومة عليه أيًّا كانت الظروف والأحوال، والمؤمن الصادق يدرك أن هناك سوسًا ينخر في عظامه لو أهمله وهو العجز والكسل، فهو دائم الترصد له يطارده قدرَ طاقته وجهده.

ومن الأسباب المعينة كذلك: عدم الإثقال على النفس والتشديد عليها، فإنه أدعى للمداومة فـ«قليل دائم خير من كثير منقطع»، و«أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» والحديث متفق عليه.

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا».

ولذلك فإن الأخذ بالتدرج، من الأسهل إلى ما فوقه، منهجٌ سليم للنفس التي اعتادت عدم العمل, ولعل مما يعين على ذلك التعاون مع أقارب له, أو أصدقاء أو زوجة صالحة, وليعلم أحدنا أن نصف ساعة كل يوم، يختم فيها القرآن كله كل شهر بإذن الله, وأن مثل ذلك كثير من الأعمال الصالحة الميسرة, ولكن يحتاج الأمر إلى عزيمة، وتأمل معي ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دفّ نعليك بين يدي في الجنة»؟ قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي.

وإذا نسيت يا أخي من حديثي لك اليوم ما نسيت، فلا تنس آيات في كتاب الله تعالى يقول الله فيها: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 9-11]، وإذا فترت يومًا ما, فتذكر وصية حبيبك صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله! لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» والحديث متفق عليه.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين في كل مكان.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً