ختام شهر رمضان

الخطبة الأولى/ ختام الأعمال في شهر رمضان
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ربُّ البريات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ختم به ربُّه النبوَّات والرسالات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد” فاتقوا الله عباد الله، فإنها ثمرة صيامكم في شهر رمضان كما قال ربكم جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة].

أيه الأحبة، وبعد فجدير بنا بعد أن يتم الله لنا شهرنا أن نعمل بما أمر: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، فعلينا أن نكثر من الشكر بجميع المحامد ومنها: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وقد ورد في الحديث الصحيح: “اعلمْ أنَّ خيرَ عبادِ اللهِ تبارك وتعالى الحمَّادونَ”.

وإن من أجل ما يختم به الشهر الاستغفار، فقد جاء في الحديث المرفوع عن أبي هريرة رضي الله عنه في فضل شهر رمضان: “ويغفر فيه إلا لمن أبى”، قالوا: يا أبا هريرة! ومن يأبى! قال: “يأبى أن يستغفر الله”.

وإنك كثيرًا ما تقرأ في كتاب الله تعالى الأمرَ بالاستغفار والحثَّ عليه والترغيبَ فيه وبيانَ ثماره وآثاره، ولا سيما في نهاية الطاعات وعند إتمام العبادات، وكان من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ختمُ الأعمال الصالحة بالاستغفار، فقد ثبت في صحيح مسلم: “أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا”[رواه مسلم]، وورد ختم صلاة الليل بالاستغفار، قال الله تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، يتهجدون ويتعبدون لله ويرون أنَّهم مقصِّرون فيسألون الله المغفرة” ولذا ختم – سبحانه – سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}”.

وشُرع للمتوضئ أن يختم وضوءه بأدعية مجموعها: “أشْهَدُ أنْ لا إله إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيك لَهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَوَّابِينَ، واجْعَلْني مِنَ المُتَطَهِّرِينَ، سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إِلَيْكَ” فالتوبة والاستغفار أحسن ما ختمت به الأعمال.

وقال تعالى في آيات الحجِّ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة]، والمراد بالإفاضة هنا أي إلى منى يوم العاشر من ذي الحجة”، حيث يقوم الحاجُّ بإكمال أعمال حجهم التي هي خاتمة أعماله.

قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: “فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذِكْرُ اللهِ شُكْرُ اللهِ على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنَّة الجسيمة، وهكذا ينبغي للعبد كلَّما فرغ من عبادة أن يستغفرَ الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمَن يرى أنَّه قد أكملَ العبادةَ ومنَّ بها على ربِّه، وجعلت له محلاًّ ومنزلةً رفيعة، فهذا حقيق بالمقت ورد العمل كما أنَّ الأول حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أُخر”. اهـ.

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ختم مجالسه بالاستغفار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه يسلم: “مَن جلسَ في مجلِسٍ فَكَثرَ فيهِ لغطُهُ ، فقالَ قبلَ أن يقومَ من مجلسِهِ ذلِكَ : سُبحانَكَ اللَّهمَّ وبحمدِكَ ، أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا أنتَ أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ ، إلَّا غُفِرَ لَهُ ما كانَ في مجلِسِهِ ذلِكَ” رواه الترمذي، وصححه الألباني.

وروى النسائي والطبراني عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: “مَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا قَطُّ، وَلَا تَلَا قُرْآنًا، وَلَا صَلَّى صَلَاةً، إِلَّا خَتَمَ ذَلِكَ بِكَلِمَاتٍ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَاكَ مَا تَجْلِسُ مَجْلِسًا، وَلَا تَتْلُو قُرْآنًا، وَلَا تُصَلِّي صَلَاةً إِلَّا خَتَمْتَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَنْ قَالَ خَيْرًا خُتِمَ لَهُ طَابَعٌ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ، وَمَنْ قَالَ شَرًّا كُنَّ لَهُ كَفَّارَةً: سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ” [صححه الألباني في “الصحيحة” (3164)].

عباد الله توبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الأخرى/

الحمد لله في الأولى وفي الآخرة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد

فاتقوا الله عباد الله، وتأسوا بحبيبكم صلى الله عليه وسلم، فإنه لما وفّى نبينا صلى الله عليه وسلم تبليغَ الرسالةِ، وأقَّر الله عينه بعز الإسلام، وظهور المسلمين، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، أمره الله بالاستغفار عَقِيبها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}.

ولقد ختم حياتَه العامرةَ بتحقيق العبودية وكمال الطاعة بالاستغفار، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنَّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مُسنِدٌ إليها ظهرَه يقول: “اللَّهمَّ اغفر لي وارحَمني وأَلحِقنِي بالرَّفيق الأعلى” [رواه البخاري]، مع ملازمة عظيمة منه صلى الله عليه وسلم للاستغفار في أيام حياته الزكيَّة وعمره الشريف.

وكان السلف الصالح مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة والاستغفار عند الموت، ويختمون أعمالهم بالاستغفار وكلمة التوحيد، لما احتُضر عامر بن عبد الله بكى وقال: “لمثل هذا المصرع فليعمل العاملون: اللهم إني أستغفرك من تقصيري وتفريطي وأتوب إليك من جميع ذنوبي لا إله إلا الله ثم لم يزل يرددها حتى مات رحمه الله”.

وهذا الاستغفار ثماره وبركاته على أهله لا تُعدُّ ولا تُحصى في تتميم أعمالهم وجبر تقصيرهم، ورفعة مقامهم”، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الاستغفار يُخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، من العمل الناقص إلى العمل التامّ، ويرفع العبدَ من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإنَّ العابد لله والعارف بالله في كلِّ يوم، بل في كلِّ ساعة، بل في كلّ لحظة يزداد علمًا بالله وبصيرةً في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله. ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقّها. فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطرٌّ إليه دائماً في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد، لما فيه من المصالح وجلب الخيرات ودفع المضرّات، وطلب الزيادة في القوّة في الأعمال القلبية والبدنيّة اليقينية الإيمانية ” [مجموع الفتاوى (11/696]. اهـ.

وقد أعدَّ اللهُ في الدنيا والآخرة للمستغفرين من عظيم أجوره وكريم مواهبه وجزيل عطاياه ما لا يمكن عدُّه والإحاطةُ به. قال لله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا(110)} [النساء]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال]، وقال تعالى عن نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)}([13]).

فحري بالمؤمن أن يُلازم الاستغفار وأن يكثر منه ولا سيما في ختام الطاعات، وجبرًا لما فيه من نقص، وتتميما لطاعته وعبادته، وليفوز بثواب المستغفرين وكريم مآبهم، ونسأل اللهَ – جلَّ وعلا – أن يجعلنا من عباده التوابين الأوّابين المستغفرين، وأن يتوب علينا إنَّه هو التواب الرحيم.

كما أذكركم زكاة الفطر صاعًا (ثلاثة أكيال) من غالب قوت البلد، تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، ويجوز أداؤها قبل العيد بيوم أو يومين، ويمكنك أن توكل من يؤديها عنك مثل جمعيات البر الخيرية، والواجب إخراجها عن الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والمملوك من المسلمين. أما الحمل فلا يجب إخراجها عنه إجماعا، ولكن يستحب؛ لفعل عثمان رضي الله عنه.

اللهم تقبل منا صلاتنا وصيامنا ودعاءنا وصدقاتنا وكل أعمالنا على تقصير منا، إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم أعز دينك وأعل كلمتك، وانصر إخواننا المجاهدين في مكان، وفي الحد الجنوبي خاصة، وأيدهم بتأييدك، وأعنَّا على نصرتهم والدعاء لهم، اللهم أيد بالحق إمامنا خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده، وارزقهما البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، وانصر بهما الإسلام والمسلمين، واجعل بلادنا وسائر بلاد المسلمين في أمن وإيمان دائمين يا رب العالمين.

ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.