خطبة العشر وليلة القدر

الحمد لله الذي فرض علينا صيام شهر رمضان وسنَّ لنا قيامه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحب وسلم تسليمًا كثيرًا أما بعد

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} [المائدة]. التمسوا القربة إليه بطاعته، واطلبوها أينما كنتم وأينما كانت بما شرع الله لكم من صلاة وصوم وصدقات وغير ذلك.

واغتنموا مواسم الخيرات في شهر الخير والبركات، ولا سيما العشر الأواخر منه، لعل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم، ويجعلنا ممن يشهدون ليلة القدر الشريفة، ويدركون فضائلها العظيمة، فلقد قال حبيبنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ “مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ” رواه البخاري.

وإن من الربح العظيم التوفيقَ لتلك الليلة التي هي أفضل ليالي العام بلا منازع، كما أن من الحرمان أن يتشاغل المسلم عنها بما لا ينفعه، أو بما قد يضره من الآثام.

إن من يقبل بنفس طيبة كريمة على فعل الخيرات في هذا الشهر، سيجد أنه يطيق فيه ما لا يطيقه في الأشهر الأخرى، فالصيام يهذِّبُ النفس، ويمنع صاحبَه من ارتكاب ِالآثام، بل وحتى المكروهات، ويتوقفُ عن المنازعات، ويهتفُ: إني امرؤ صائم.. إني امرؤ صائم..

أيها الأحبةُ لو قارنَّا بين أعمرانا، وأعمارِ من سبقونا، لوجدناها قصيرة جدًّا، فكيف يكون لنا السبقُ على تلك الأمم ونحن أقلُّ أعمارًا منهم؟!

إنما يكون ذلك باستثمار الفرص والتسابق إليها ومن أعظم تلك الفرص، ليالي العشر الأواخر من رمضان، وبحاصة ليالي الحادي والعشرين، والثالث والعشرين، والخامس والعشرين، والسابع والعشرين، والتاسع والعشرين؛ لأن الراجح أن ليلة القدر لن تعدو إحدى هذه الليالي كما قال صلى الله عليه وسلم: “تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ.”.

قال الله سبحانه وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} [القدر]. ليلة لا تزيد عن اثنتي عشرة ساعة غالبًا، تعدل أكثر من ثلاثٍ وثمانين سنة!! فالعاقل يحرص كُلَّ الحرص على هذه الليلة حتى لا تفوته، وذلك بقيام كلِّ ليالي العشر الأخيرة، وإحياءِ كلَّ ليلة منها أحسنَ ما يكون الإحياءُ بالعبادة والتبتلِ اقتداءً بحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما روت عنه عائشة رضي الله عنها:” كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ. رواه البخاري.

وجدير بنا أن نتساءل: ماذا تفعل في هذه الليلة؟

ما أجمل أن نبدأ علاقتنا بيومنا منذ الفجر، فنؤدي الصلاةَ مع جماعةِ المسجدِ ثم نجلسُ نذكر الله تعالى ونتلو كتابه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى الفجر في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كتب له أجرُ حَجة وعمرة تامة تامة» [حسنه الألباني في الترمذي].

ومن ذلك أذكار الصباح ومنها قول: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير” مئة مرة، لما روى أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة كان له عدلُ عشرِ رقاب، وكُتبت له مئةُ حسنة، ومُحيت عنه مئةُ سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومَهُ ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا أحدٌ عَمِلَ أكثرَ من ذلك” [رواه البخاري].

احرص على أن تُفطِّر صائمًا، إما بدعوتِه، أو بإرسالِ إفطاره، أو بدفعِ مالٍ لتفطيره، وأنت بهذا العمل تكونُ حصلتَ على أجرِ صيامِ شهرِ رمضان مرَّتين، لو أنك فطَّرت كلَّ يوم منذ أن يدخل الشهر إلى آخره صائمًا لما ورد في الحديث: “مَن فَطَّر صائمًا كُتِب له مِثلُ أجْرِه، إلَّا أنَّه لا يَنقُصُ مِن أجْرِ الصائمِ شَيءٌ” صحيح لغيره. والتمس عند فطرك دعوة لا ترد، واجعل منها أن يبلغك الله قيام ليلة القدر، وإحياءها.

واحرص على الصدقة في كل الليالي المباركات، فإنها تتضاعف لشرف الوقت، وواظب على السنن الراتبة وغير الراتبة، بل بكل سنة تعرفها، منذ أن تفتح عينيك للحياة إلى أن تقفلهما نائمًا.

بكر بالفطور احتسابًا، وعند تقريبك لفطورك ليكن رُطَبًا أو تمرًا إن لم تجد رطبًا، أو ماءً إن لم تجدهما؛ محتسبًا هذا الترتيب أيضًا، ولا تنس الدعاء في هذه اللحظات، وليكن من ضمن دعائك: اللهم أعني ووفقني لقيام ليلة القدر، ثم توضأ وأحسن وضوءك، وبكِّر لصلاتك وصلِّ صلاةَ مودع؛ كلُّها خشوعٌ واطمئنان، ثم اذكر أذكار الصلاة، ثم صلِّ السنةَ الراتبة، ثم اذكر أذكار المساء -إن لم تكن قلتَها عصرًا.

ثم نوِّع في العبادة:

– لا يفتر لسانك من دعائك بـ “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”.

– وإن كان لك والدان فبُرَّهما وتقرب منهما، واقض حوائجهما.

– إذا أذن المؤذن فاعمل بحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا الله لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ له الشَّفَاعَةُ”. [رواه مسلم]، ثم بادر بالذهاب إلى المسجد مبكرًّا، وصلِّ تحية المسجد أو ما شُرع من سنن قبلية، لتتهيأ بانقطاعك عن الدنيا ومشاغلها؛ لتخشع في صلاتك، ثم اذكر الله وأكثر من الدعاء حتى تقامَ الصلاة، أو اقرأ القرآن من صدرك أو في المصحف، واعلم أنك ما دمت في انتظار الصلاة فأنت في صلاة كما روى ذلك أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:”إن أحدَكم في صلاة ما دامت الصلاةُ تحبسه، والملائكة تقول اللهم اغفر له وارحمه، ما لم يقم من صلاته أو يحدث” رواه البخاري. فإذا أقيمت الصلاة فاجتهد أن تصلي بخشوع، وكن مع كلام ربك وفي مناجاته حتى تنتهي.

فإذا عدت إلى بيتك، فليكن لك في بيتك أوفر الحظ والنصيب من العبادة من الذكر وتلاوة القرآن والصلاة والصدقة وأمر أهلك بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وبغيرها.

واحرص على الصدقة كل ليلة، وقد يسر الله لك ذلك بالمنصات الرسمية المتاحة للجمعيات الخيرية التي تشرف عليها وزارة الموارد البشرية، والحسابات التي تخصصها البنوك المحلية، وتأكد من صحتها قبل أن تشارك فيها.

واحرص على المشاركة في الأوقاف المحلية للجمعيات التي في بلدك، من خلال منصة وقفي، فتلك صدقة جارية باقية لك بعد موتك. {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى/

اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد، فاتقوا الله واعلموا، بأن رمضان موسم المغفرة، فـ”من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” [رواه البخاري]، و: “من قام رمضان إيمانا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه” [رواه البخاري]، و: “مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ” [رواه البخاري]، وفي صحيح مسلم: “الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ” لأن الكبائر لابد لها من التوبة، أما إن كانت هذه الكبيرة متعلقة بحقوق الآدميين فلا بد من الاستحلال مع التوبة أو المقاصة يوم القيامة؛ لما رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-:”مَن كَانَتْ له مَظْلَمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه”. [رواه البخاري].

وليكن لك جلسة مع كتاب ربك فتقرأه، وليكن لك قراءتان في شهر رمضان إحداهما سريعة “الحدر” والأخرى بتأمل مع التفسير إذا أشكلت عليك آية، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه:”لأن أقرأ سورة أرتلها أحبُّ إليَّ من أن أقرأ القرآن كله.

وإن نمتَ لتجدد طاقتك للعبادة، فأنت مأجور -بإذن الله- ولتكن لك خلوةٌ مع ربك ساعةَ السحر، تتفكر في عظمة خالقك، وتدنو من رحمته، وتتعرض لمغفرته، علَّ عينيك أن تدمعا فتكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما قال صلى الله عليه وسلم: “ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه..” [رواه البخاري].

وتذكر نعمه التي لا تحصى عليك مهما كنت فيه من حال أو شدة فأنت أحسنُ حالًا ممن هو أشدُّ منك كما قال صلى الله عليه وسلم:” انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ، فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ” قال معاوية: عليكم [رواه مسلم].

وتداركْ هذه العشرَ العظيمة قبل أن تتصرم منك، ولا تلتفت إلى من يُشيع الرؤى ليحدد ليلة القدر الشريفة، فيحدَّ من اجتهاد المجتهدين في بقية الليالي، فإن علمَها عند الله تعالى، بل شمِّرْ واستمر حتى آخرِ لحظة من هذا الشهر العظيم، فإن الأيام معدودة، والعمرَ قصير، واستحضر هذه النعمةَ العظيمة أن بلغنا رمضان ووفقنا لصيامه وقيامه وصالح الأعمال، فكم من شخصٍ مات قبل أن يبلغه، وكم من مريض مر عليه رمضان كغيره من الشهور، وكم من عاصٍ لله ضالٍّ عن الطريق المستقيم ما ازداد في رمضان إلا بعدًا وخسارًا، وأنت يوفقك الله للصيام والقيام، فاحمد الله على هذه النعمة الجليلة، فاستثمر كل دقائقها فيما يرفع درجاتك عند مولاك، وفي الصباح يَحمدُ القومُ السرى.

وأكثر من الصلاة والسلام على حبيبك محمد فقد أمرك الله بذلك في كتابه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) } [الأحزاب].

اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه البررة أجمعين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم احفظ بلادنا هذه وجميعَ بلاد المسلمين من شر الأشرار، وكيد الفجار، اللهم من أرادها وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده تدميرًا له.

اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده وأعوانهما لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وتقبل منهم ما ينفقونه في سبيلك وابتغاء مرضاتك.

اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، وفي الحد الجنوبي خاصة، وأمدهم بمدد من عندك وجند من جندك، واحفظ ديارهم وأموالهم وأهليهم، ورد عنهم بقوتك وجبروتك، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولأحبابنا ولجميع المسلمين. اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.