الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، [النساء:1] .
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا لله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
ها قد طويت صحيفةُ رمضان بين العزيمة والتقصير، فاللهم اقبل بمنك وفضلك طاعةَ المطيعين، واغفر ذنوب المقصرين، ووفق الجميع إلى اتصال الإحسان، وحب العبادة أبدا حتى نلقاك وأنت علينا راضٍ غيرُ غضبان.
هنيئا لمن أتم الشهر صائما محتسبا: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” رواه الشيخان. فقد بلغ الفرحة الأولى، وتهيأت نفسه للفرحة الأخرى بعد عمر مديد إن شاء الله: “للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه”، فجمع ـ بفضل الله وكرمه ـ بين سعادتي الدنيا والآخرة. والمؤمن يفرح على وجل المتقين؛ وكله رجاء أن يتقبل الله ـ تعالى ـ منه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [سورة المؤمنون 23/60].
ولذلك شرع لنا في هذا اليوم إظهار الفرح والتلبسُ بالنعم، والحمدُ والشكرُ والتكبير على إتمام العدة، وبلوغ المراد.. والإلحاح في طلب القبول من رب العباد. {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة البقرة 2/185].
جاء العيد لينال أهلُ الخير جوائزَهم من الله جل في عليائه، الذي لا يضيع ـ عنده ـ عملُ عامل من ذكر أو أنثى؛ ولذلك سُمي يومَ الجائزة، فاللهم إنا نستودعك قليل أعمالنا فبارك لنا فيها وربِّها لنا.
أيها الأحبة .. إن القيام بعزائم العبادات في رمضان لمن لم يكن يقوم بها من قبل، يدل على أن الإنسان قادر على تعويد نفسه على الإحسان، حتى يصبح من عاداته، وما وفقتَ إليه ـ أيها المبارك ـ في رمضان من الإحسان إلى الخلق، وبرِّ الوالدين، وصلة الأرحام، هو مفاتيح للخير بعد رمضان، فدعونا نفتح صفحة جديدة مع والدينا، فنداري تقصيرنا، ونطلب العفو والسماح منهما، فما أقرب قلوبَ الآباء من الأولاد!
دعونا نفتح صفحة جديدة مع أرحامنا وأصدقائنا وجيراننا؛ فنصلَهم بعد قطيعة، ونعفوَ عنهم بعد ظلم، ونعود إليهم بعد جفاء.
دعونا نفتح صفحة جديدة مع أعمالنا ومسؤولياتنا، فننهض بها بعد تفريط، ونحفز من يعمل معنا بعد تثبيط، ونحرصَ أن نكون فيها نجوما يهتدى بها.
دعونا نفتح صفحة جديدة مع وطننا الغالي، فنفيَ له بحقوقه علينا، كما نطالبُه بحقوقنا منه، ونبذلُ كلَّ ما نستطيعُ لحماية مكتسباته، وتنمية الحياة في ربوعه، ونعطي الطاعة لأولياء أمورنا في المعروف، في العسر واليسر، والمنشط والمكره.
إن العيد ـ أيها الإخوة المسلمون ـ حياة جديدة تنتعشُ فيه أسمى معاني الحب والإخاء والألفة، تنشر الابتساماتِ الصافيةَ على الشفاه، فتُنتزعُ الأحقادُ، وتُشفى النفوس، وترتاحُ القلوب.
العيد ـ أيها الإحبة ـ فرحة يستحقها من أطاع الله فصام وصلى، وتصدق وزكَّى، وذكر الله ولبى. ذلك الذي يطوي بين ضلوعه نوايا الخير للاستمرار على الطاعة والصلاح. {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
فهنيئا للطائعين عيدهم، وتقبل الله منا ومنكم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الخطبة الأخرى
الحمد لله يشرح صدور عباده لما يحبه ويرضاه، ويصرفهم عما يغضبه ويأباه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الله أكبر الله الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
عباد الله، كما نتعبد الله تعالى بالبكاء من خشيته، نتعبد الله تعالى اليوم بالفرح في يوم من أيام الله تعالى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فلا يخفى ما جعل الله في القلوب من التشوق إلى العيد والسرور به والاهتمام بأمره، اتفاقا واجتماعات وراحة، ولذة وسرورا، وكل ذلك يوجب تعظيمه”، وشَرْعُ النبي – صلى الله عليه وسلم- وإقرارُه إظهار الفرح وإعلان السرور في الأعياد، قال أنس رضي الله عنه: “قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ r الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ” رواه أحمد وإسناده صحيح.
ولذلك يلبس الناسُ ما لا يلبسونه في سواه؛ ويتزينون له، وذلك مشروع؛ ففي الصحيحين: “وَأخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ”. وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يلبس في العيد أحسن ثيابه.
وجاء في الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ في يَوْمَ عِيدٍ وكان السودان يلعبون بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، تقول عائشة: “فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَإِمَّا قَالَ : تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ، حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: حَسْبُكِ؟ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَاذْهَبِي” رواه البخاري.
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: «دَعْهُمَا» فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا [رواه البخاري ومسلم].
وقد استنبط أهل العلم من هذا الحديث مشروعية التوسعة على العيال في أيام العيد بأنواع ما يحصل لهم من بسط النفس، وترويح البدن من كلف العبادة، وأن إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين. فليكن شعارنا في عبادة الفرح في العيد “لِتعلمَ يهودُ أنَّ في دِيننا فُسحةً إني أُرسلتُ بحنيفيةٍ سمحةٍ”.
ومن الأمور الحسنة التي اعتادها الناس التهنئة بالعيد، وفيها حديث جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِلْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: “تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك”، فلننثر ورود التهاني ولنتبادل التباريك فيما بيننا مقرونا بهذا الدعاء: “تقبل الله منا ومنكم”، ولنبدأ الناس بتهنئتهم، بالزيارة والاتصال، وما عجز عنه وقتنا عوضناه بالرسائل.
ولا ننسى المرضى في المستشفيات وتقديم الهدايا لهم، وإدخال السرور عليهم.
وإهداء العمال من ذوي الدخل المنخفض بطاقات شحن لمعايدة أهلهم.
وإذا كنا نعد الفرح في العيد عبادة، فيجب أن نلتزم شرع الله فيها، فنحرص على السنن والشعائر الواردة فيه، ونوسع على العيال دون إسراف، ونلبس الجديد دون إسبال للرجال، ولا تعرٍّ للنساء؛ فلقد شاع ـ للأسف ـ تهاون كثير من الناس في لباس الفتيات بل والنساء، حتى وصل إلى كشف العورات وكشف ما لا يحسن أمام المحارم، مما يخدش الحياء، ويجريء على ما هو أكبر منه، كيف وقد حدث!!
وإن نسينا في عيدنا فلن ننسى أبدا إخوانا لنا في العقيدة في أرض الإسراء وغيرها، وغيرها من بلاد المسلمين يقضونه في محنة وخوف، ولا نملك إلا أن ندعو الله لهم أن يكون هذا العيد مطلع رحمة عليهم بعد عذاب، وفرجا بعد شدة، لتعود المقدسات إلى أهلها، وينعمون بما ننعم به من خير ونعمة.
وإن المسلم لينتظر تمام فرحته عند لحظة عظيمة، يقول فيها الرسُولُ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِم” رواه البخاري.
أخواتي المصليات أوصيكن بالمحافظة على مكتسبات رمضان، فلقد كنتِ ـ أيها الصائمة المصلية ـ حريصة على القيام فلا تتركيه، وعلى الصيام فواصلي رحلتك معه بدءًا بستٍ من شوال، ثم بثلاثة أيام من كل شهر، وعلى الصلاة بعد الإشراق فدومي عليها وعلى صلاة الضحى فأثبتيها في جدول يومك، وعلى القرآن فأديمي صحبتك له، واستهدفي حفظه كلَّه إذا استطعت، وربِّي عليه نفسَك وأهلَك وأولادك، وكنتِ سعيدة بالصدقة في وجوه كثيرة فلتعلمي بأن الفقراء في غير رمضان أحوج؛ لأن الناس ينشغلون عنهم، وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم النساء خاصة بالصدقة؛ ليفتدين أنفسهن يوم العرض الأكبر، فاحرصي عليها.
كما أوصيك بالستر والعفاف، ولا تسمعي لمن يدعوك لنزع حجابك أمام الأجانب، في سوق أو مطعم، أو في سفر خارج بلادك، فربك في بلادك هو ربك في أي بلد تكونين فيه، فاتقي الله في نفسك وفي بناتك، واحرصي على بر والديك، وطاعة زوجك، وتربية أولادك. تقبل الله منا ومنكم، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد أولا وآخرا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين في بلادنا هذه خاصة وفي كل مكان، اللهم ارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم. وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده وأعوانهم لما تحب وترضى.
اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن مدينيهم، واهد ضالهم، وهيء لأمة الإسلام أمرًا رشدا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.