خطر الإلحاد

خطر الإلحاد

 

 

الخطبة الأولى

الحمد لله ولي المتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، قامع الملحدين، صلَّى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: 102].

آية جليلة، تضمنت أمرين عظيمين، التقوى التي هي ثمرة الإيمان، والثبات على الإيمان.

عباد الله، وفي عصرنا المائج بكل فتنة، تُطِلُّ مسألة الإلحاد في الدين والطعن فيه، وهي ليست مسألة جديدة؛ بل وُجدت منذ عصور الإسلام الأولى، حتى قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [فصلت:40]. وقال جل وعلا: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف:180].

إن المتابع لما يدور على الساحة في البلاد المسلمة، يلحظ في العَقْد الأخير ظهورَ بعض التصريحات والعبارات التي تحمل معاني الكفر والردة من قلة من الشباب هداهم الله لليقين، ورد كيدهم عن باقي المسلمين، وقد ساعد على هذا التصريح انتشار وسائل الاتصال والتواصل الحديثة التي وفرتها الشبكة العنكبوتية، ومن واجب الخطباء والدعاة والعلماء بيان الحق والدفاع عن العقيدة الحقة.

أما الإلحاد فهو الميل عن الحق، قال الراغب: “أَلْحَدَ فلان: مال عن الحقّ”، وقال في تعريفه للغيب: “هو ما لا يقع تحت الحواسّ ولا تقتضيه بَدَايه العقول، وإنما يُعلم بخبر الأنبياء -عليهم السلام-، وبدفعه يقع على الإنسان اسم الإلحاد”، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “الإلحاد: التكذيب”، وجاء في “معجم لغة الفقهاء” أنه: “الكفر بجميع الأديان، وإنكار جميع الرسالات”.

ولعل هذا هو أقرب التعريفات الاصطلاحية لما يُرَاد بالإلحاد في عصرنا؛ ذلك أن أهل الكتاب رغم ميلهم عن الحق إلا أنه لا يقال عنهم: ملحدون، وكذا من ترك الإسلام للنصرانية مثلاً لا يقال: إنه ألحد، بل يقال: ارتد وتنصر، ولا يقال: إنه ملحد، وإن كان مال عن الحق والإسلام.

ومما تجدر الإشارة إليه أن لفظ الإلحاد عند المتقدمين لم يكن محصورًا في هذا المعنى المذكور، بل هو يشمله ويشمل كل انحراف عن عقيدة الإسلام؛ ولذا نرى ابن تيمية -رحمه الله- مثلاً يصف أهل الحلول والاتحاد بالإلحاد، رغم عدم إنكارهم للرسالات.

وفي بلادنا حالات فردية تظهر فجأة، فتلفتُ الأنظار إليها؛ بسبب غرابتها عن المجتمع، وجرأتها في الخروج على قيمه ومعتقداته، وهذا يؤكد كون المسألة لم تصل إلى حد الظاهرة، ولكن الغيور على دينه يخشى من تزايدها.

إن أعظم ما منَّ الله به على هذه البلاد في القديم والحديث هو نعمة التوحيد، وصفاء الدين من كل ما يعكر صفوه من الشركيات والبدع ومحدثات الأمور؛ ولا شك أن هذا من أكثر ما يعتز به أبناء هذا الوطن على مختلف مستوياتهم ومناصبهم ومراكزهم، وهو ما يحتّم الواجب الذي على عواتقنا لتبقى بلادنا بلاد التوحيد، ونحن نعلم أن الانفتاح العنكبوتي لم يدع بلادًا في منأى عن أي تيار خطير وهدّام، وفي موطأ الإمام مالك: “أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَتَبَ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ: إِنَّ الْأَرْضَ لاَ تُقَدِّسُ أَحَداً، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ” [الموطأ: 1459].

وإن مما ينبغي أن يُعلم أن الأصل في أهل الأرض من بني آدم كان التوحيد والإيمان، ثم طرأ عليهم الكفر والشرك، فليس لأحد عند الله عز وجل عهد إن هو فرَّطَ ولم يحافظ على ما أسداه إليه من نعم، ولا أدل على ذلك من قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:124]. فعلَّمه ربه جل وعلا أنه ليس لذريته عهد إن هم فرطوا وبدلوا وظلموا. وهذا النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» [رواه الإمام مسلم 2699].

إن أول خطوة ينبغي القيام بها لعلاج أي مشكلة من المشكلات: هي الاعتراف بوجودها، وعدم إنكارها، فإن إنكار وجود الشمس لا ينفي وجودَها، وإنَّ دسَّ الرؤوس في الرمال لن يدرأ عن المرء ما يدهمه من أخطار؛ لذا فلا بد من النزول لأرض الواقع، وعدم التعلق بالأماني والأوهام والأحلام.

والخطوة الثانية هي التعرف على أسباب هذه البوادر الخطيرة، وأبرزها: الاطلاع على ثقافات وأفكار جديدة، إن ضلال بني البشر إنما يكون بالشبهات والشهوات، والشبهات هي التي تحرف العقول عن الصراط المستقيم، بينما الشهوات تعمل عملها في النفوس؛ ولا شك أن الشبهات أشد خطراً؛ لأنها إذا استحكمت صعُب على المرء التخلص منها؛ ومن تأمل في قصة أبينا آدم -عليه السلام- مع إبليس ظهر له هذا الأمر بجلاء، ففتنة إبليس كانت من جهة الشبهة: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الأعراف:12].

بينما كانت فتنة آدم -عليه السلام- من جهة الشهوة: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه:121].

لذا سهل على آدم أن يرجع ويتوب، وأبى إبليس واستكبر.

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً}[النساء: 26- 27].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله ملء كلِّ شيء، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.

إن هذا العصر يشهد نشرًا للشبهات بصورة لم يسبق لها مثيل، ولم تحدث في تاريخ البشرية من قبل، لا سيما عبر وسائل الاتصالات الحديثة، والقنوات الفضائية المغرضة، التي جعلت ثوابت الشريعة قابلة للأخذ والرد، ونشرت العهر والرذيلة، عن طريق إثارة الشهوات، مما يُضعف الوازع الديني لدى المرء، ويكون أكثر عرضة لقبول ما يخالف تعاليم الإسلام من معتقدات أو أفكار.

ومن بينها تلك التي تبث أفكار التشكيك والإلحاد، عن طريق بثّ الشبهات حول القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، ومسائل القضاء والقدر، والحكمة والتعليل في أفعال الله عز وجل، والطعن في بعض أحكام الشريعة، فوافق كلُّ ذلك قلوبًا خاوية، أو ضعيفة الإيمان فتمكنت منها.

ومن هذه الوسائل أيضًا: بعض الصحف والمجلات والكتب التي ينتجها التيار التغريبي العلماني على المستوى العالمي والعربي؛ حيث ظهر فيها ما يحوي كفرًا وإلحادًا صريحًا.

إن كثيراً من هذا الانحراف الخُلقي والفكري الذي نراه عند شبابنا يرجع إلى هذا الفراغ، ومع توافر المال المعين على تحصيل وسائل الانحراف بشقيه: الخُلقي بالشهوات، والفكري بالشبهات يعظم الخطب، وقد يتحول إلى نوع من التقليعات الفكرية إذا صح التعبير؛ حيث تنتشر بعض الأفكار بين الشباب لا عن قناعة بها ولكن تقليدًا لغيرهم، فقد توجد موجة فكرية في الغرب أو الشرق فيتبناها بعض شبابنا من باب التقليد لا أكثر، أو قد يكون التقليد لشخصية مشهورة، أو لزميل انزلقت رجله في هذه الهاوية.

وإذا أخذ بعين الاعتبار ما يروّج له الملحدون أو المشككون في الأديان من كون مذهبهم هو الموافق للعقل، وأن الأديان على اختلافها -ومنها الإسلام- لا تستطيع أن تجيب على أسئلتهم؛ فلهذا ألحدوا، سيما أن سن الشباب يكون مصحوبًا في كثير من الأحيان برغبة في التمرد، والتخلص من كل الأوضاع والمفاهيم التقليدية والمستقرة، ومن كل القيود في محيط الشاب، بدءًا من قيود الأسرة، مرورًا بالمدرسة، وانتهاء بالمجتمع كله، فالشباب يطمح إلى التغيير وعدم النمطية، ولا شك أن تعاليم الدين الراسخة والثابتة والمستقرة يمكن أن تكون هدفًا لهذه الروح المتحللة إذا لم يتحلَّ صاحبها بالإيمان الرادع عن مثل ذلك، المُرَغِّب بالدار الآخرة وما عند الله من النعيم.

أيها الشباب أولاً وأولياء الأمور ثانيًا .. إن تسلل مثل هذه الأفكار المنحرفة لعقول الشباب لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها، ولو أن المحيطين بالشاب أو الفتاة كانوا على مسافة قريبة منه، ومن همومه وأفكاره؛ لأمكنهم اكتشاف ما يمر به في مراحله الأولى، قبل أن يستفحل الأمر، ويقع في براثن الكفر والإلحاد، وهو ما يعني ضعف أو غياب الرقابة الأُسَرِيّة من الوالدين، اللذين قد يكون كل منهما منشغلاً بشؤونه وأعماله خارج البيت أو داخله، ولا يكون حظ الأولاد منهما في الغالب إلا ما يتعلق بالحاجات المادية الظاهرة، وهذا يعني ضعف الرقابة أو غيابها من جهة، وضعف التوجيه أو غيابه من جهة أخرى، والضحية يكون هذا الشاب وتلك الشابة.

ولا يمكن هنا أن نغفل دور الصحبة، فلو أن الوالدين حرصا على الصحبة الصالحة لولدهما؛ لأمكن لهذه الصحبة أن تشعر بالأمر، ومن ثَم تقوم بما ينبغي القيام به من محاولة النصح أولاً، ثم التواصل مع الأهل إن لم يُجْدِ النصح نفعًا، وأما ألا يبالي الوالدان بنوع صحبة الأبناء، فلا عاصم حينئذ من الوقوع في شباك رفقة سيئة، تجر إلى الفواحش، وقد تجر إلى انحرافات عقدية، إلا أن يشاء الله.

ولا يمكننا في هذا المقام أن نغفل دور المدرسة كذلك، فللمعلم والموجّه التربوي دوره في مراقبة الأبناء، وتفقد أحوالهم، ولو أن المعلم كان على الدرجة الكافية من التأهيل العلمي والتربوي لاستطاع -غالباً- اكتشاف بوادر التحول عند الطالب، ولأمكنه أن يقدم العون لإنقاذه من وهدة الضلال.


نسأل الله العلي العظيم أن يحفظ مجتمعاتنا ويحفظ بلادنا من كل شر، وأن يقينا وكافة المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 



اترك تعليقاً