رمضان مدرسة اجتماعية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين    أما بعد

فأوصيكم ـ أحبتي في الله ـ بتقوى الله وطاعته، كما أمر الله تعالى فقال سبحانه: {يا أيها الذين اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.

أيها الإخوة الكرام.. كثيرا ما يدور الحديث بين الناس حول بعض الممارسات الاجتماعية الخاطئة في رمضان، والتي فشت في المجتمع فشو الغبار، حتى لم تدع بيتا إلا داهمته، أو على الأقل تركت عليه مسحة من التقليد، هذا إذا استطاع هذا البيت العتيد الصمود أمام طغيان العادة على التدبير والعقل والاستقلالية.

وكثير من هذه العادات مستهجنة عند جميع الناس قولا، أو على أقل تقدير عند كثير منهم، ولكنهم ينهزمون أمامها عملا، فهم يتحدثون عنها حديث المنكر المتبرم، ولكنهم يقعون في شباكها غافلين عن أن ما يرونه فيها ليس رزقًا حسنا، وإنما هو طُعمٌ جشع.

ولعل من أبرز هذه الظواهر المريضة الإسراف في إعداد مائدة الإفطار، فقُبيل شهر رمضان المبارك تشهد أسواق المواد الغذائية تدفقا بشريا هائلا، يُحدث إرباكًا كبيرا في التسوق، كما يُحدِث اختناقاتٍ خطيرةً في المرور، ويجعل المجتمع كله في هيئة استعداد ضخم لموسم غذائي، وليس لموسم عبادي، فتزداد التكاليف وتتضاعف على كاهل راعي الأسرة وعائلها، وتتراكم المواد الغذائية في المنازل، وتبدأ رحلة العذاب لراعية المنزل في إعداد الإفطار العشري (أي الذي لا يقل عن عشرة أصناف).

فلا وقت لديها لتلتفت إلى تربية أولادها، ولا تملك الزمن الذي تقرأ فيه وردها، ولا تخشع في صلاتها.. ولا تسل عن مفاصلها، ولا عن نفسيتها حين تنتهي المهمة مع الأذان أو بعده بقليل، وقد اشتعلت أعصابها وهي تصارع الوقت مخافة أن يصرعها، فلا يبقى لها جسد ولا تهدأ لها روح.

فهل حقا نحن نحتاج إلى كل هذا الإمدادات الغذائية الشرهة إذا صمنا؟

لا أظن ذلك. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسبِ ابنِ آدمَ أكلات يُقمنَ صُلبَهُ، فإن كان لا محالةَ : فثلُث لطعامِه، وثُلُثٌ لشرابِه وثُلُثٌ لنفَسِه” [رواه الترمذي وهو حسن صحيح].

وبطن الإنسان لا يتوسع إذا صام، بل يضيق. ولكن الذي يتسع هو عينه فقط.

أخي الكريم..

لماذا نواصل السير في الدروب التي خبرنا آفاتها، وتكسرت في أقدامنا أشواكها، لماذا لا نتفق الآن على أن نوقف تسلط هذه العادة على حياتنا، ولتكن وجبة الإفطار كغيرها من الوجبات التي كنا نتناولها قبل رمضان، تتنوع موادها الغذائية وتتكامل ولا تتضخم، فتشبعنا وتمتعنا ولا تتخمنا، وتغذينا ولا ترهقنا.

فإذا كان للصيام أثرٌ طبيٌّ رائعٌ على الجسد من صحة وحيوية، وتقوية لجهاز المناعة، ووقاية من العلل الأمراض والسموم المتراكمة في خلاياه كما يجزم بذلك الأطباء. فإن الإفراط في الطعام يهدم هذا الأثر، ويحرم الصائم من منفعة عظيمة كانت بين يديه. ولنتذكر دائما وصية خالقنا الحنان المنان لنا في محكم التنزيل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء]. فما أجمل أن يرحل رمضان عنا وقد تحسن وزننا، وصحت أجسادنا كما تصح فيه أرواحنا، إذن لاستقبلنا عيدنا ونحن في غاية السعادة والعافية.

يا عبد الله..

ومن طرف آخر، فإن رمضان شهر الرحمة والتعاطف والتكافل، وإني أذكرك بأنك وأنت تقضي أيام هذا الشهر الكريم وهي تفيض بالبهاء كما يهوى القلب التقي، وتتقلب في نعيم العبادة كما يتمنى العبد المحب لمولاه، وتحرص على التخفف من أعمال الدنيا؛ ليفرغ فؤادك لما هو أعز وأجل. أذكرك بأن هناك من يتمنى منك أن تلحظه بعين رعايتك، وشئ من اهتمامك، ويود لو يذكرك بنفسه أنه مسلم يتمنى منك أن يحظى بخصوصية في المعاملة تتناسب مع خصوصية رمضان.

إنهم تحت يديك أجراء، يترقبون إشارتك، وينظرون مواضع نظرك، ليلبوا لك كل طلباتك، خدم كانوا بين أهلهم أسيادا، فأذلتهم الحاجة والمسكنة، حتى ساقوا نساءهم للخدمة في بيتك وبيوت بني ديارك خارج ديارهم مرغمين، وساقوا شبابهم سائقين وعاملين، يتغربون من أجل رواتب زهيدة، لا ترفعهم من حال الفقر إلى الغنى غالبا، ولكنها تقيم أودهم، وتشبع جوعة أطفالهم، وتحفظ ماء وجوههم عن دنس الاستجداء، وذل المسألة، وذاك هو عز العمل الشريف مهما بدا ذليلا. وتلك سنة الله في خلقه، يقول الله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون}.

أفلا تستحق هذه الفئة منك لفتة حانية تؤجر عليها في رمضان؟

إنهم مثلك مسلمون، يصومون كما تصوم، ويتمنون أن يقوموا من الأعمال الصالحة في هذا الشهر بمثل ما تقوم، فهلا خففت عنهم بعض الأعمال، وفرغتهم جزءا من الوقت ليفرغوا لقراءة القرآن، أو صلاة القيام.

هذا هو أملي فيك، فكما أنك تسعى إلى فقير لتعطيه، وإلى محتاج لتعينه، وإلى ملهوف لتغيثه، فلن تنسى إن شاء الله من هم في بيتك أو مؤسستك.

أخي الصائم..

كما ترجو الأجر في صيامك وقيامك فاطلبه في التخفيف عن خدمك وعمالك في هذا الشهر، وإسداء المعروف لهم، والسماح لهم بأداء العبادات والطاعات، حتى لو كانت تستدعي سفرا إلى مكة لأداء العمرة، فلتحتسب ذلك عند الله، فإنما هي فرصة ثمينة لهم، ما داموا بين ظهرانينا قريبين من الحرم، ولك في ذلك الأجر إن شاء الله.

عباد الله التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

الخطبة الأخرى / رمضان مدرسة اجتماعية

الحمد لله الذي أعطى فأغنى وأقنى، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا    أما بعد

فاتقوا الله عباد الله

ولعلك تشاركني ـ أخي الصائم ـ العجب من قوم جعلوا صيامهم حجة لهم وعذرا عن تقصيرهم في أداء واجباتهم على الوجه الحسن، فعللوا تأخرهم في قدومهم إلى وظائفهم بأنهم كانوا نائمين، ونوم الصائم عبادة !!، وعللوا تراخيهم عن إتقان أعمالهم بأنهم مرهقون بسبب الجوع أو العطش، وللصائم الحق في أن يخفف عنه من جهد العمل ومشقته، وعللوا خروجهم المبكر قبل أن يستوفي وقت العمل حقه، بأنهم محتاجون لقضاء بعض اللوازم للإفطار!! وعللوا تذمرهم من المراجعين، وسلاطة ألسنتهم على الناس بأنهم.. أستغفر الله.. صائمون!!

فيا ليت شعري كيف يفسر هؤلاء أثر الصيام على أنفسهم، وكيف يفصلونه على قدود مشتهياتهم؟!

رمضان شهر العمل والبذل والعطاء، لا شهر الكسل والخور والضعف، شهر وقعت فيه أكبر الانتصارات في الإسلام في القديم والحديث، فلم يكن عائقا عن أداء مهمة، ولا داعيا للتقاعس عن إتقان عمل.

(إتقان العمل) م الإحسان الذي أمر به الإسلام، بل هو من أداء الأمانة، وقاعدة عظيمة لا تختل بظرف طارئ، كيف والصوم عبادة تؤدى لله، هدفها الأول تربية التقوى في النفس المؤمنة، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة]. والتقوى وازع إيماني عميق الجذور، إذا تغلغل في النفس كان حاجزا مانعا لها عن كل ما يسخط الله، ودافعا قويا لها إلى كل ما يحب الله، والإتقان مما يحب الله، وهو من صفات الكمال التي اتصف بها عز وجل، قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل].

فأول ثمرة متوخاة من تقوى الله تعالى في العمل، مراقبته عز وجل في كل الساعات التي تمضيها أخي الموظف الصائم وأنت تمارس عملك، بأن تكون في مرضاة الله، وألا تضيع منها دقيقة واحدة في غير ما يخص وظيفتك، وأن تنشط لمهامك بوعي تام، وأن تكون في موقعك ينبوع أخلاق؛ ونهر عطاء ؛ تتدفق بكل خير على مراجعيك دون تذمر منهم أو مشقة عليهم، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: “من وَلِيَ من أمرِ أمتي شيئًا فرَفِقَ بهم فرَفِقَ اللهُ بهِ ومن وَلِيَ منهم شيئًا فشَقَّ عليهم فعليهِ بهلَةُ اللهِ قالوا يا رسولَ اللهِ وما بهلةُ اللهِ قال لعنةُ اللهِ” [حديث صحيح].

وصح عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: “وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ”. تخيل معي لو أن كل صائم منا حمل هذه الراية البيضاء، إذن لبكى الشيطان بكاء مرا!! لأننا أفشلنا أكبر مؤامرة خطط لها من أجل إفساد عبادتنا، وذات بيننا.

فما رأيك أخي الصائم أن تحمل الراية معي لنكون في كوكبة الصابرين، ونواجه كل مُتَحَدٍّ لمشاعرنا، أو مستفزٍّ لأعصابنا بهذا الهتاف الإيماني: “إني امرؤ صائم” بل فلنحاول أن نناصح زملاءنا في العمل، ونذكرهم إذا رأينا منهم بعض ظواهر هذه الممارسات الخاطئة.. فلعلنا نفوز باستجابة… ودعوة ومثوبة.

فمن أبرز ما يميز مجتمعنا الطيب من سمات عليا، خلق الإيثار، هذه السمة الرفيعة التي تعز على صغار النفوس، ومن تملكتهم الأنانية وعشق الذات، الذين يبيعون كل شيء حتى مبادئهم من أجل مصالح زهيدة، لا تفطن إليها عيون الكبار.

الإيثار هو الذي جعل كل إنسان في هذا الوطن يرى أن من واجبه أن يقتسم رزقه مع أصناف من إخوانه المسلمين المحتاجين، وأن يغرس له في كل بلد من بلدانهم نخلة من البر والإحسان، تدر عليه من الدعاء والثواب ما لا يحصيه إلا الله، جل في علاه.

ولذلك.. فقد وجدت أفكار الغيورين مرتعا خصيبا في أرضنا، فانطلقت مشروعات النماء والعطاء تنبثق ثم تشب ثم تبلغ أشدها، طاوية مرحلة الطفولة بين حنايا أيامها الأولى.

جمعية تحفيظ القرآن الكريم، جمعية البر الخيرية، جمعية تيسير الزواج، جمعية التنمية الأسرية، جمعية الدعوة وتوعية الجاليات، منصات الوطن الموثوقة مثل إحسان وشفاء وجود وفرجت، وأمثالها، تتضافر ولا تتنافر، ويخدم كل منها جانبا من جوانب الخير لا يغني عنه الجانب الآخر.

وهي جميعا تعتمد في مواردها بتوفيق من الله على أمثالك ـ أخي الصائم ـ من أهل البر والإحسان، وتعد موسمها الكبير شهر رمضان، حيث الجود فيه أكثر من سواه.

إنك حين تسهم بأموالك أو أي عمل من الأعمال التي تساند فيها هذه المؤسسات التطوعية، فإنما تشترك في عمل ربما كان خيرا من اعتكاف المصلين، وصيام المتقين، وقيام الخاشعين، فالسعيد من وفقه الله لقضاء حاجات الملهوفين، وبذل المعروفين للمعوزين، وتخفيف عبء الحياة عن البائسين، وما يوفق لذلك إلا ذو حظ عظيم.

الناس للناس ما دام الحياء بهــم         والعسر واليسر ساعات وأوقات

وأسعد الناس من بين الورى رجل         تقضى على يده للناس حاجات

قد مات قوم وما ماتت فضائلهـم        وعاش قوم وهم في الناس أموات

أتراك أخي الصائم ستذهب اليوم إلى واحدة أو أكثر من هذه المؤسسات لتعرض عليها طاقاتك وخدمتك واختصاصك، أو تدخل إحدى تلك المنصات الرسمية الموثوقة وتسهم بمالك؟ فلعلهم ينتظرون جودك الذي عودتهم جزاك الله خير ما يجزي المحسنين الأبرار في هذا الشهر الكريم.

اللهم فكما بلغتنا رمضان، فبلغنا فيه الصيام والصدقة والقيام، وسائر الأعمال الصالحة، وتقبلها منا. اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين على ثغورنا وفي كل مكان، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم وفق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده وأعوانهم لما تحبُّ وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيء لأمة الإسلام أمرا رشدا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.