كيف أترك لي أثرا بعد الحياة

الخطبة الأولى/

الحمد لله الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ، وجعلَ الظلماتِ والنور، خلقَ الإنسانَ وكرَّمه، وعلَّمه البيانَ ومكَّنَه، شرَّف آدمَ أبا البشر بخلقِه بيديه، ونفخَ فيه من روحه، وأنزلَ لهم الشرائع؛ ليعبدوه ويوحدوه، ويتأهلوا لكرامة الدار الآخرة، والسعادة الدائمة فيها، فسبحانه من ربٍّ رحيم، وإلهٍ عظيم، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخاتمُ رسل الله وأنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين    أما بعد

عبادَ الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله وطاعته، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}.

أخي المصلي الحبيب، أطالَ اللهُ عمرَك على صحةٍ وطاعة.. هل اجتهدتَ أن تتركَ أثرًا بعدك؟! أثرًا في بيتك، في أسرتك، في عملك، في حيِّك، في أصحابك، في مجتمعك، في وطنك، في أمتك، في البشرية؟ في أي مكان تتواجد فيه؟ كالعطر.. أينما فُتحت صُرته فاح عبيره، وكالورد أينما اهتزَّ غُصنه انتشر أريجه.

إن الحياةَ التي نعيشها قصيرةٌ، وقصيرةٌ جدا، والحصيفُ هو الذي يفكرُ كيف يمكن أن يعيشَ مثلَها مراتٍ وكرات، تستولي على ذهنه فكرةُ بقاءِ الأثرِ بعد الحياة؛ حتى تصبحَ هاجسَه ومشروعَه الكبير، ألم يقلِ اللهُ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [سورة يــس 36/12]، نعم يفكرُ كيف يعيشُ أكثرَ من عمره، كيف لا، وهو يسمعُ قولَ حبيبِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : “إذا ماتَ الرجلُ انقطعَ عملُهُ إلَّا من ثلاثٍ ولدٍ صالحٍ يدعو لَهُ، أو صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنتَفعُ بِهِ” (حديث صحيح). بل كيف يتوانى عن ذلك وهو يسمعُ مصطفى ربِّه تعالى – صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقول: “سبعٌ يَجري للعبدِ أجرُهُنَّ، و هوَ في قَبرِه بعدَ موتِه: مَن علَّمَ علمًا، أو أجرَى نهرًا، أو حفَر بِئرًا، أو غرَسَ نخلًا، أو بنَى مسجِدًا، أو ورَّثَ مُصحفًا، أو ترَكَ ولدًا يستغفِرُ لهُ بعد موتِه”. [حديث حسن]. والولدُ يشملُ الذَّكرَ والأنثى. فهل عجزَ أحدُنا أن يكون له من هذه الأبوابِ العظيمةِ أجرٌ باقٍ خالدٌ في الدنيا والآخرة؟ ألم تفكرْ أن تساهمَ في بناء مستشفى، أو دارٍ للأيتام، أو مدرسةٍ ذاتِ مواصفاتٍ خاصةٍ للنجباء والموهوبين، أو تساهمَ في وقفٍ من أوقافِ الجمعياتِ الأهليةِ التي تخدمُ المجتمعَ في تعليمِ القرآنِ الكريم، أو إطعامِ المحتاجين، أو إصلاحِ ذاتِ البين، أو الدعوةِ إلى اللهِ تعالى، أو تسعى في تمكينِ الشبابِ والفتيات من العمل، أو تقيمَ سكنًا للفقراء، أو تنشرَ كتابا نافعًا، ونحوِ ذلك، وما أكثرَ فرصَ الأوقافِ وأجلَّها!

وخذْ لكَ زادينِ: من سيرة          ومن عملٍ صالحٍ يدَّخرَ

وكنْ في الطَّريقِ عفيفَ الخُطا      شريفَ السَّماعِ، كريمَ النظر

وكن رجلًا إن أتوا بعده            يقولون: مرَّ وهذا الأثرْ

يتباهى بعضُنا بمعرفة الناجحين أصحابِ الأثر، فكيف لا يفكرُ في أن يكونَ منهم؟!  لماذا يتفرجُ بعضُنا على من يراهم يقدمون لنا كلَّ ما في وُسعِهِم، ثم لا يخطو في الاتجاهِ الذي ساروه ليقدمَ مثلَهم، فاليدُ العليا المعطيةُ، خيرٌ من اليدِ السُّفلى الآخذة:

الناسُ بالناسِ مـا دامَ الحيـاءُ بهـم

  والسَّـعـدُ لا شَــكَّ تــاراتٌ وهَـبـَّـاتُ

وأفضلُ الناسِ ما بين الورى رجلٌ

  تُقضـى علـى يـدِهِ للـنَّـاس حـاجـاتُ

لا تمنعـنَّ يـدَ المـعـروفِ عــن أحــدٍ

  مـا دمـتَ مُقـتـدرًا فالسَّـعـدُ تَــاراتُ

واشكرُ فضائلَ صُنـعِ اللهِ إذْ جُعِلـتْ

  إليـكَ لا لـكَ عـنـدَ الـنـَّاسِ حَـاجـاتُ

قد ماتَ قـومٌ ومـا ماتـتْ مكارمُهـم

  وعاشَ قومٌ وهم في النَّاسِ أمواتُ

إن الإنسانَ لا يشعرُ بذاتِه وكيانِه إلا إذا أحسَّ أنَّ له أثرًا في الحياةِ مهما كان صغيرًا..

هيَّا ـ أيها المحبُّ للخير ـ خذْ مكانَك العلويَّ المتواضع، فالمصباحُ ـ مع صمتِه المتواضع ـ فإنه كلما ارتفعَ اتسعَ نطاقُ إضاءته، فترفعْ أنتَ بأخلاقِك وفكرِك، وعممْ دوائرَ استثمارِ قدراتِك؛ ليتسعَ نطاقُ تأثيرِك في الحياةِ على من حولَك.

وتنبهْ ـ يا رعاكَ الله ـ “شيئانِ يُدمِّرانِ الإنسانَ، الانشغالُ بالماضي والانشغالُ بالآخرين. فمن طرقَ بابَ الماضي أضاعَ المستقبلَ، ومن راقبَ الآخرينَ أضاعَ نصفَ راحته”.

انتزعْ نفسَك ـ أيُّها المباركُ ـ من الحديثِ النفسي المثبِّط، وتجاوزْ حاضرَك، فكرْ في المستقبل، سواءٌ ما يتعلقُ بالآخرةِ وما أعدَّ اللهُ فيها للمتقين: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [سورة السجدة:17] ، أو حتى في الدنيا، وأن يذكرَك الناسُ بخير أو يدعون لك، لأنك قدّمت لهم خيرًا، يقولُ اللهُ على لسانِ نبيٍّ من أصفيائه: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (الشعراء:84). يترحمونَ عليك، ويستغفرونَ لك، ويقتدون بفعلك، ويهتدون بهديك، و”ربَّ مبلغ أوعى من سامع”.

ولا شكَّ أن عبقريةَ المؤمن وإيمانَه يدفعانه إلى اختيارِ أعظمِ الأعمال أجرًا، وأكثرِها مرضاة لله، تلك التي يتعدى نفعُها إلى الآخرين، وذلك لأن نفعَها وأجرَها وثوابَها لا يقتصرُ على العاملِ وحدَه، بل يمتدُّ إلى غيرِه من الناس، والمؤمنُ مباركٌ ـ بإذن ربه ـ أينما حلَّ وأقام {وجعلني مباركًا أينما كنت}.

العبادةُ ـ أيها الفضلاء ـ ليستْ صلاةً وصيامًا فحسب، وليست بناءَ مساجدَ وكفالةَ أيتامٍ فقط، بل هي كلُّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال بنيةٍ صادقة، فكن مبدعًا مبتكرًا فيما يمكنُ أن تقدمَهُ من خدمةٍ لمجتمعك، محتسبًا ذلك عند خالقِك تعالى، الذي يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحـج 22/77].

توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى/

الحمد للهِ أهلِ الثناءِ والحمد، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، البشيرُ النذيرُ، والسراجُ المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين     أما بعد

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا بأن المسلمَ كما يسعى إلى تحقيقِ السعادةِ والأفضليةِ في الدنيا، وهي    ـ بالنسبة للآخرة ـ برهةٌ قصيرة، وفترةٌ وجيزة، و{متاعٌ قليل} كما قال عنها خالقُها تبارك وتعالى، فإنه يسعى أكثر إلى تحقيق السعادة في دار القرار، {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21]، في توازنٍ يحققُ من خلالِه حياةً طيبةً في الدنيا، ونعيمًا مقيمًا في الآخرة. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].

يقولُ ابنُ القيِّمِ ـ رحمهُ الله ـ “شرحَ اللهُ صدرَ رسولِه – صلى الله عليه وسلم – أتمَّ الشرح، ووضعَ عنهُ وزرَه كُلَّ الوَضْع، ورفعَ ذكرَهُ كُلَّ الرَّفع، وجعلَ لأتباعه – أي: لمن اقتفى أثرَه، وآمنَ به، واهتدى بسنته – حظًّا من ذلك … وكلما قويت متابعةُ العبدِ علمًا وعملًا، وحالاً واجتهادًا، قويتْ هذه الثلاثُ التي هي: شَرْحُ الصدر، ووضْعُ الوِزر، ورفعُ الذِّكر، حتى يصيرَ صاحبُها أشرحَ الناسِ صدرًا وأرفعَهم في العالمين ذِكرًا”.{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].

ويردُ سؤالٌ مهمٌّ: كيف يُمكنُ المواءمةُ والجمعُ بين الرغبةِ في تحقيقِ الأثر، وقصدِ الإخلاصِ للهِ – عز وجل -، وهل الإنسانُ يعملُ ليوجِدَ أثرًا يذكرُه به الناسُ، أم يعملُ للهِ – عزَّ وجل -؟

“إن العملَ الصالحَ والعملَ العباديَّ هو للهِ – سبحانَه وتعالى -، وكلما كان العملُ العباديُّ خالصًا للهِ كان أثرُه أعظم، وهذا من الحكمةِ والعدلِ الإلهي، فمن يتعمدُ أن يُظْهِرَ عملَه ولو بنية حسنة، قد لا يكون لهذا العملِ أثرٌ، مثلما إذا تعمدَ أن يخفيَهُ وأظهرَهُ اللهُ – سبحانه وتعالى -، فـ “ما أسرَّ عبدٌ سريرةً إلا أظهرَها اللهُ على صفحات وجهه وعلى فلتاتِ لسانِه”، و”من صحّ جَنانُه فصُح لسانُه”، فحين يكون الإنسان قلبه سليمًا كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء:89)، فإن أثرَ هذا يظهر على رأيه ولسانه وكلامه وعلى تأثيره على الآخرين؛ ولذلك فإن أعظمَ الناس تأثيرًا هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وكلما أخفى العبدُ عملَه التعبديَّ كان هذا أفضل، ولذلك قال الله -سبحانه وتعالى- في الصدقات: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية271]. وما ظهر فاستوجبَ ثناءَ الناسِ فهو ـ إن شاء الله ـ عاجلُ بشرى المؤمن، فقد: “قيل لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أرأيتَ الرجلَ يعملُ العملَ من الخيرِ، ويحمدُه الناسُ عليه؟ قال ” تلك عاجلُ بُشرى المؤمنِ”، وفي روايةٍ: ويحبُّه الناسُ عليه. وفي رواية: ويحمَدُه الناسُ”. [رواه الإمام مسلم]. اللهم بشرنا برضاك وجنتك.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في الحد الجنوبي وفي كل مكان، اللهم اقبل شهداءهم، وداوِ جرحاهم، وفك أسراهم، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين الملكَ سلمان بن عبد العزيز ووليَّ عهده الأمير محمدَ بن سلمان لما فيه خيرُ البلاد والعباد، وأعنهم على ما يبذلونه من جهودٍ في خدمةِ الإسلامِ والمسلمين، والدفاعِ عن عقيدتِنا، وخدمةِ الحرمينِ الشريفينِ ورعايتِهم لهما، وتقبل ذلك منهم، وبارك فيه وانفع به نفعًا عميمًا.

اللهم يا ربنا بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ووالديهم ولجميع المسلمين واجعلنا ـ جميعًا ـ من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.