فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
(2)
الخطبة الأولى:
الحمد لله نوَّر الدنيا بضياء محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل وحشتها أنسًا بصحابته الأبرار وبآله الأطهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ما تعاقب الليل والنهار.
عباد الله {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة البقرة: 189].
أيها الأحبة في الله..
من أعظم الذين لهم حق علينا، في التوقير والتقدير والحب، آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام عليهم رضوان الله، ومن أعظمهم شأنًا والد الحَسَنَيْن، وزوج الطاهرة المطهرة فاطمة الزهراء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أول من أسلم من الصبيان، وأول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول فدائي في الإسلام استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته ليلة الهجرة، ووكل إليه رد ودائع المشركين، وجعله أخاه؛ حين آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة، وشهد معه المشاهد كلها.
ولم يتخلف عنه إلا في غزوة تبوك إذا استخلفه على المدينة، فقال علي: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام: “ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي” [أخرجه البخاري ومسلم].
وفضائله عليه رضوان الله تعالى أكثر من أن تُحصى، حتى قال الإمام أحمد: لم يُنقل لأحد من الصحابة من الفضائل ما نُقل لعلي رضي الله عنه.
كان رضي الله عنه من علماء الصحابة وأشهر فقهائهم، وأدقهم فهمًا، وأشدهم توفيقًا للحكم الصائب، والرأي السديد، وكان الصحابة يرجعون إليه إذا أشكلت عليهم المسائل، حتى روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: أقضى أمتي عليّ، وعن عمر رضي الله عنه قال: “قضية ولا أبا حسن لها”، فذهبت مثلاً.
وجاء رجل إلى معاوية رضي الله عنه فسأله عن مسألة فقال: سل عنها عليّ بن أبي طالب، فهو أعلم. قال: يا أمير المؤمنين جوابك فيها أحب إليّ من جواب عليّ. فقال له معاوية: بئس ما قلت، لقد كرهتَ رجلاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزره بالعلم غزرًا. وكان حسن المشورة، حتى قال عمر: لولا عليّ لهلك عمر.
وأما عن شجاعته فقد كان منها في المحل الأوفى، أبلى أحسن البلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشد المحن، ونلتقط من بين آلاف الصور المشعة بالشجاعة والإقدام، صورة فريدة في غزوة الخندق حين خرج من صفوف المشركين عمرو بن ود ونادى من يبارز؟ فبرز له علي رضي الله عنه، فقال له: يا عمرو، إنك كنت عاهدت الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خليتين إلا أخذتها منه. قال له: أجل: قال علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسول الله وإلى الإسلام، فقال: لا حاجة لي بذلك قال: فإني أدعوك إلى النزال. فقال له عمرو: لِمَ يا ابن أخي؟ فوا لله ما أحب أن أقتلك، قال عليّ: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا فقتله علي رضي الله عنه.
وفي معركة خيبر تعذر فتح الحصون على المسلمين أولاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: لأعطين الراية غدًا رجلاً يحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار، ثم دعا عليًا وهو أرمد، [أي مصاب بالرمد في عينه]، فتفل في عينه فبرئت، وسلمه الراية، وكان الصحابة لا يستشرفون إلى إمارة إلا في تلك الساعة، كل منهم تمنى أن يكون هو ففاز بها عليّ.
وأما عن ورعه وزهده، فللدنيا أن تقول إذا رأته يا ويلاه، وللجنة أن تقول إذا ذُكِرَ لها واشوقاه، استمع إلى منهجه في حياته يلخصه لصاحبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في خلافته: يا أمير المؤمنين: إن سرك أن تلحق بصاحبيك (يعني رسول الله وأبا بكر) فأقصر الأمل، وكُلْ دون الشبع، وأقصر الإزار، وارفع القميص، واخصف النعل تلحق بهما.
وقد عُوتب في لباسه الرخيص فقال: ما لك واللبوس؟ إن لبوس هذا أبعد من الكبر، وأجدر أن يقتدي به المسلم.
وخير ما نختتم به سيرة علي وأحلاه ما أخرجه الدولابي: أن معاوية رضي الله عنه قال لضرار الصدائي صف لي عليًّا – وكان ذلك بعد استشهاده – فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لَتَصِفَنَّهْ . قال ضرار: كان والله بعيد المدى، شديد القِوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس من الليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، بقلب كفّه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن. كان فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله -مع تقريبه إيانا، وقربه منا- لا نكاد نكلمه هيبةً له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظِّمُ أهلَ الدين، ويقرِّبُ المساكين، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد بالله: لقد رأيته في بعض مواقفه – وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومُه-، يميل في محرابه، قابضًا على لحيته، يتململ تلملم السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غُرّي غيري. ألي تعرضتِ؟ أم إلي تشوفت؟ هيهات هيهات! قد طلقتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك قليل. آه آه من قلة الزاد وبعد السفر، ووحشة الطريق؟
فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك.
فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبِحُ واحدُها في حجرها، لا ترقأ دمعتها، ولا يسكن حزنها.
رضي الله عنه وأجزل له المثوبة وجعل لنا في سيرته خير عظةٍ وعبرة.
قال تعالى : {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [سورة الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الحكيم الخبير، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. صلى الله عليه وعلى صحابته وسلم تسليمًا كثيرًا ..
أما بعد .. فيا أيها الإخوة المسلمون، بعد أن عطّرنا أسماعنا بسيرة علي رضي الله تعالى عنه، تعالوا إلى شيء من أقواله، علَّ كلمةً منها يكون وعيُنَا لها، وعملُنا بمقتضاها من أسباب القرب من الله، ودخول جناته.
يقول رضي الله عنه: “لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: أذنب ذنبًا فهو يتدارك ذلك بتوبة، أو رجل يسارع في الخيرات”.
“كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل؛ فإنه لن يقِلَّ عمل مع التقوى وكيف يقل عمل يُتقبل؟”.
“ألا إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنِّطُ الناس من رحمة الله، ولا يؤمِّنُهم من عذاب الله، ولا يُرَخِّصُ لهم في معاصي الله، ولا يدع القرآن رغبةً عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهمَ فيه، ولا خيرَ في قراءة لا تدبر فيها”.
رضي الله عن علي فقد كان أمه وحده، وجمعنا به في مستقر رحمته.
ثم صلوا وسلموا على من ربى عليًّا صغيرًا، ورعاه شابًّا وزوّجه أحبَّ بناته إليه، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة الأحزاب: 56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد . وارض اللهم عن خلفائه الأربعة، وصحابته البررة وآله الطاهرين، وعنا معهم برحمتك وفضلك يا أكرم الأكرمين ..
ندعوك يا ربنا بما دعاك به عبدك علي رضي الله عنه: “اللهم اغفر لنا ما أنت أعلم به منا، فإن عدنا فعُد علينا بالمغفرة، اللهم اغفر لنا ما وَعَدْنا من أنفسنا ولم تجد له وفاء عندنا، اللهم اغفر لنا ما تقربنا به إليك بألسنتنا ثم خالفتْه قلوبُنا، اللهم اغفر لنا رمزات الألحاظ، وسقطات الألفاظ، وسهوات الجنان، وهفوات اللسان، يا من يرحم من لا يرحمه العباد، ويا من يقبل من لا تقبله البلاد، ويا من لا يُحتقر أهلُ الحاجة إليه، ويا من لا يجيب بالرد أهل الإلحاح عليه، يا من يشكر على القليل ويجازي بالجليل، يا من لا يغير النعمة، ولا يبادر بالنقمة، يا من يثمِّرُ الحسنة حتى ينميها، ويتجاوز عن السيئة حتى يعفيها، انصرفت دون مدى كرمك الحاجات، وامتلأت بفيض جودك أوعية الطلبات، وخاب الوافدون على غيرك، وخسر المتعرضون إلا لك، وأجدب المنتجعون إلا من انتجع فضلك، وها نحن يا إلهنا نؤمل في فضلك، فأكرم وفادتنا، واسمع نداءنا، وأحسن منصرفنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المجاهدين، وارفع البلاء عن إخواننا المستضعفين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.