اجتياح غزة 2006

اجتياح غزة 2006

الخطبة الأولى: 

الحمد لله الذي شرّف المؤمنين بشراء أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة خالدين فيها أبدًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا إمام المجاهدين، وسيد الشهداء أجمعين، عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، يقول الله جل في علاه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70- 71]. 

أيها المسلمون:   

 من أين أنهي حيرتي المتضرمة بين أضلاعي؟!

كيف يطيب لي أن أصف ما لا تطيق أعصابي؟!

إلى من أوجه نداءاتي؟!

بأي الكلمات أصوغ آلامكم وأناتي؟!

فلسطين.. هذا الجرح النازف من أجسادنا، هذا الألم المستعر في قلوبنا، هذا البلاء الكبير الذي يضع أمتنا وكل فرد فيها على محك الولاء والبراء، هذا الذي يشعرنا بالعجز أمامه فنبكيه، ونشتم صانعيه، ثم ماذا.. ثم ننكفئ على أنفسنا في ذلة ومهانة لا نستطيع أن نقدم له شيئًا.. حتى الدعاء نقصر فيه، ونتهاون بأثره.. وحتى المال نبخل به.. وتلك سطوة الخيبة، وحرارة المأساة..

حقًّا لم تمر على أمة الإسلام فترة أحرج ولا أصعب ولا أقسى من الظروف التي تمر بها اليوم؛ إذ أصبحت الأخطار الجسام تحدق بها من كل حدب وصوب، تهدّد حاضرها ومستقبلها، لقد أصبحت أمم الكفر والطغيان تنشر رعبها وإرهابها حيثما تريد، ظنًّا منها أن شعلة الإيمان انطفأت في قلوب أتباع الإسلام، وأنهم أصبحوا مقدورًا عليهم في أي لحظة، وأن شعوب المسلمين أصبحوا سادرين في لهوهم، لا تؤلمهم غير جراح دنياهم، وأنهم يموجون في بداية كل محنة تُدار عليهم، ثم تخفت أصواتهم بعد حين، فكان ما نرى من تسلط رهيب من اليهود في فلسطين على إخواننا هناك، من أجل جندي واحد تتحول الدولة الفلسطينية إلى دولة معتقلة، ويصير الشعب الفلسطيني في غزة شعبًا مسجونًا في أرضه، بشاعة في القتل والقصف، وإرهاب بالسجن والهدم والإفساد في الأرض والزرع. ومحاولة لإذلال الشعب المصابر.. وكأنهم لا ينتمون لأمة تزيد عن المليار.. ولكن قوة هذا الشعب في إيمانه بالله، وعودته إليه، ولذلك تصاعدت حدة الاعتداءات عليه، حين توجه إلى مكامن القوة فبعثها من مرقدها، وألقى بكل شعارات الدنيا في البحر، وسار باسم الله، متأبطًا قول الشاعر الفلسطيني الذي قضى على صعيد الأرض المباركة:

سأحمل روحي على راحتي            وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حيـاة تسـر الصـديـق            وإمــا مـمـات يغـيـظ الـعـدا

لقد باتت الشهادة في سبيل الله أمنية الشباب والشابات هناك، وكل منهم ينتظر دوره بفارغ الصبر، فقد علموا أن ما انتزع بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، وأن الدماء الطاهرة هي الجسور الحقيقية للوصول إلى العزة والكرامة. {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139- 140].

إننا ونحن نرى مواكب هؤلاء الشباب والشابات تُشيع على نعوش الإباء، مجللة بالتكبير وعهود الاستمرار على طريقهم مهما غلا الثمن، لنشعر بكثير من العزة في زمن الخنوع، وبكثير من الكرامة في زمن الذل، ونواسي جراحنا فيهم بأننا نحسبهم والله حسيبهم بأنهم قضوا شهداء، ينافحون عن دينهم ومقدساتهم.

أيها الأحبة.. ومن حقنا أن نحزن على مقتل كل فرد منهم، وقد أعزنا الله بهم، ومن حق ذويهم أن يفاخروا بهم ويفرحوا؛ فلقد قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى» رواه البخاري.

إنها سواعد تحمل البندقية والحجر المبارك، الذي يصحبه نور {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، ونفوس ترمي بأرواحها في أشداق الموت في بلدات مرابطات تهتف: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، لقد قدم هذا الشعب آلاف الشهداء، وآلاف الجرحى، ولا يزال الشباب الفلسطيني المؤمن يعلنها صريحة بأنه لا يزال على استعداد أن يقدم مزيدًا من التضحيات من أجل الأقصى، ولن يتخلى عنه أبدًا، لقد أصبح الشعار المتداول: (إياك أن تموت على فراشك، لا تمت إلا في وابل من النيران).

(….) مهم جدًّا ـ يا فلسطيني الحبيبة ـ أن ألامس أذنيك اللتين تعودتا أن تسمع كثيرًا من صراخ الخطباء ونعي الزعماء وولولة الرفقاء ولكنها.. لا تذكر سوى شهقات الشهداء.. بألا تنتظري أحدًا.. فالدول العظمى يرضي بعضها بعضًا بسحق مقومات العزة في أعصابك، ففي الوقت الذي تعلن فيه أمريكا أسفها وحربها على (بضعة مجرمين يقطعون الرؤوس بالسكاكين) فإنها تغض الطرف عن قتل الأطفال بالطائرات، وهتك الحرمات بالدبابات، وتعذيب السجناء بالفحشاء، وتحطيم البنية التحتية لمدن آمنة، وترى أن إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل ليس إرهابًا، وإنما هو دفاع عن النفس!!!

إذا اختُطف جندي إسرائيلي فإن من الطبيعي جدًّا تبويب كل ردة فعل يهودية له في خانة الدفاع عن النفس، ولو كانت إرهاب قطاع بأكمله، وحرمانه من أبسط حقوق الإنسان، وتفجير محطة الكهرباء، وقطع الماء، واعتقال وزراء الشعب الفلسطيني ونوابه، وإذلاله حتى العظم.. طمعًا في ألا يرفع في المستقبل أنفًا !!

ولا تنتظري ـ يا فلسطيني ـ في هذا الزمن.. أحدًا من أمة المليار والنصف.. فكل منهم مشغول بليلاه.. فلا ترخي لهم أذنًا حتى لا يزداد همك وغمك.. فلن تسمعي سوى أنين مطرب، وتصفيق مشجع، وهمسات العشاق في كل مصيف.. بل ربما لم يسمع بعضهم بما جرى لك ولأهلك الأبطال وهم يتابعون كأس العالم، واسمحي لسمعك العزيز أن ينصت بشفقة وإعذار لشجب خجول واستنكار مسكون بالشعور بالضعف والتوسل صرنا نترقبهما بشوق بعد كل ضربة جديدة من العالم الإسلامي الجريح في شرقه وغربه ووسطه.. مخافة أن نفقدهما نهائيًّا!! وحتى لا تفقدي الأمل في أمتك التي لا بد يومًا أن تفيق..

أيا فلسطيني الحبيبة.. صدقيني لا تنتظري أحدًا أبدًا.. إلا من واحد أحد بيده النصر وحده.. كوني معه ولو نُشرت جذوع شبابك بالمناشير.. فله الأمر كله وعليه التكلان.

وحدك لا بد أن تخيطي بأناملك الخضراء أثواب العزة وشفوف أعراس المجد. فما ألذ الموت حين يكون ثمنًا للكرامة في الدنيا والجنة في الآخرة.

أيتها (الأبية).. كبيرة أنت رغم كل تلك المحاولات المخزية لتاريخ الإنسان المعاصر. عظيمة أنت رغم كل المحاولات اليائسة لتركيعك.

برغم الأذى النفسي الذي نال كرماء أمتك الغائبة عن القرار الفاعل.. حين دبت ريح الفُرقة في الجسد الفلسطيني الواحد.. فقد كانت الفرحة كبيرة حين عادت روح الاتفاق من جديد، ولو أنها على صفيح ساخن..! والوحدة جسر النصر.

{وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من البيان، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.


الخطبة الأخرى:

الحمد لله الواحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فلنتق الله عباد الله في جميع أحوالنا وفي إخواننا في آفاق الأرض..

لك الله أيها الشعب المصابر.. وأنت تخوض حربك مع أنذل الشعوب وأقذرها، تجرعت مرارة الظلم المصبوب على رأسك في كل لحظة، فصبرت وجاهدت.. ولسوف تنال حريتك، ويعود إليك مجدك، بعز عزيز أو بذل ذليل.. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

وإننا لواثقون بأن ما تقوم به إسرائيل هو إشعال قوي لروح المقاومة والجهاد في فلسطين بعد هدأة نالتها بسبب دخول (المقاومة) في المعترك السياسي.

ولكننا واثقون بأنهم موعودون بالهزيمة من رب العالمين، {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] بدمائهم، إنهم يزرعون بكل شهيد حديقة من الشهداء في كل أرض يُذكر فيها الله، وهل علموا بأن حب الأقصى دين في شريعتنا، وأننا نرضعه أطفالنا، ونغرسه في عروق أجسادنا وأشجارنا، هل علموا بأن أمنية الصلاة في الأقصى تتصدر كل الأمنيات التي تحلق في وجدان المؤمن، ولو كان الثمن هو الموت من أجل الله؟ كيف لا والأقصى أولى القبلتين، وثالث المسجدين، ومسرى النبي الأمين، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].

فلنشارك أهلنا هناك مرارة عيشهم في ظل الاجتياح الغاشم، فلنقاسمهم لقمة الخبز، وليكن لهم من قلوبنا، وعقولنا، وصلاتنا وتواصينا ما تبرأ به ذمتنا؛ فنحن نملك الدعاء الصادق الذي يقرع أبواب السموات لا يحجزه بغي ولا ظلم في هدوء الأسحار، وخشوع السجود، ولحظات الرقة، وساعات الاستجابة بدءًا من هذا اليوم الفاضل، وفي قنوتنا في نفل أو فرض.

إن الشعب الفلسطيني يقاتل بالنيابة عن المسلمين جميعًا، وإذا كان هذا الشعب ضحى بحياة أبنائه، وبذل من روحه وقودًا لهذا الجهاد، فيجب على بقية الشعوب المسلمة أن تنصره بالمال؛ أداءً لفرض فرضه الله علينا، ليس تبرعًا أو تطوعًا، وإذا كان قصارى ما تتمناه ـ أيها الشاب ـ في لحظة اندفاعك أن تكون مع المقاتلين في الميدان، فيكفي أن تدفع ديتك، وتبقى حيث أنت تجاهد في محاور أخرى.. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

متفائل ـ والله ـ أن الليل زائل..

متفائل وحبوب سنبلة تموت..

لتملأ الوادي.. سنابل

اللهم يا من بيده ملكوت السماوات والأرض، هيئ للقدس فرسانها، وفك بهم أسرها، وارزقنا في مسجدها الأقصى صلاة آمنة مطمئنة نهنأ بركوعها وسجودها، إنك سميع الدعاء.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.



اترك تعليقاً