النخلة والمؤمن 3.

الحمد لله الذي تفرد بالجلال والعظمة والجمال ، وأشكره شكر عبد معترف بالتقصير عن شكر بعض ما أولاه من الإنعام والإفضال، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد

فأوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته ، اعترافًا بنعم الله علينا ، وطلبًا للنجاة من يوم عظيم الكروب ، شديد الأهوال ، وامتثالاً لأمره حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}.

فللنخلة في حس المؤمن خصوصية من بين جميع الشجر، إنها شبيهته، بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: مما رواه الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ من طريق محارب بن دِثار: سمعت ابنَ عمر يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء، لا يسقط ورقها ولا يتحاتُّ.

فقال القوم: هي شجرة كذا، هي شجرة كذا، فأردتُ أن أقول هي النخلة ـ وأنا غلام شاب ـ فاستحييت، فقال: هي النخلة”.

ولاشك بأن “أنَّ ضربَ الأمثالِ مما يأنسُ به العقلُ، لتقريبها المعقول من المشهود، وقد قال تعالى ـ وكلامه المشتمل على أعظم الحِجَج وقواطع البراهين ـ: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]، وقد اشتمل منها [أي القرآن] على بضعة وأربعين مثلاً، وكان بعضُ السلف إذا قرأ مثلاً لم يفهمه يشتدُّ بكاؤُه ويقول: لست من العالِمين» [الكافية الشافية لابن القيم: 9].

فلنسر نحن مع العالمين بالأمثال؛ فقد حثنا حبيبنا صلى الله عليه وسلم فقال: “يا أيُّها الناسُ تعلموا، إنَّما العلمُ بالتعلُّمِ، والفقهُ بالتفقُّهِ، ومن يُرِدِ اللهُ بهِ خيرًا يفقهْهُ في الدِّينِ”. [حديث حسن ـ ابن حجر].

اطلعت على ما فتح الله به على عدد من العلماء والباحثين فوجدت ما لا يقل عن عشرين شبها بين المؤمن والنخلة، ووجدت فيها من العلم والعمل، والوعظ والتذكير، والنور والهدى، ما جعلني أحسُّ

بأني سيَّحتُ قلبي في رياضٍ أريضة، لا يريد أن يتوقف عن البحث عن مزيد من جمالاتها والتفتيش عن كنوزها، كيف لا، وهذا معين النبوة يسقي ارتباطا نفسيا وثيقا، فقد نشأت في الأحساء واحة النخيل، حتى قلت:

إِنِّي سَلِيلُ النَّخِيلِ الشُّمِّ تَعْرِفُنِي مِنْهَا الجُذُورُ وأَهْوَى سَعْفَهَا التَّرِبَا الصفة الأولى في النخلة: (الثبات) أمام العواصف:

“فالنخلة أصلها ثابت في الأرض، وفرعها في السماء، تتحمل الجفاف، وتقلبات الطقس، وتصبر على الشدائد البيئية، ولا تعصف بها الرياح بسهولة، وتستمد طاقتها من الشمس والهواء بورقها المهيأ لذلك وقوتُها في هالتها الورقية، والمؤمن قوي ثابت في أصول الإيمان، يرتبط بالأرض التي خلق منها واستمد منها الماء والمعادن، ويتحمل الشدائد والفتن والابتلاء، ويصبر ولا يضجر وهامته مرفوعة تستمد

نورها وعلمها من السماء، حيث الوحي وأوامر الله تعالى، وكما أن المؤمن لا يستغني عن الوحي الإلهي، فالنخلة لا تستغني عن الضوء الإلهي.

وثباتها وقوَّتُها في مرونتها، كما قيل قوة الخيزران في مرونته، فهي تتكفأ يمنة ويسرة، وتعود مرة أخرى شامخة قوية: وفي مثلها ورد هذا الحديث العظيم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا، فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ، وَالْفَاجِرُ كَالْأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ “رواه الإمام مسلم.

قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْمُؤْمِن كَثِير الْآلَام فِي بَدَنه أَوْ أَهْله أَوْ مَاله, وَذَلِكَ مُكَفِّر لِسَيِّئَاتِهِ, وَرَافِع لِدَرَجَاتِهِ, وَأَمَّا الْكَافِر فَقَلِيلهَا, وَإِنْ وَقَعَ بِهِ شَيْء لَمْ يُكَفِّر شَيْئًا مِنْ سَيِّئَاته, بَلْ يَأْتِي بِهَا يَوْم الْقِيَامَة كَامِلَةً [شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 153].

وقال ابن القيم: “هذا المثل ضرب للمؤمن وما يلقاه من عواصف البلاء والأوجاع والأوجال وغيرها فلا يزال بين عافية وبلاء، ومحنة ومنحة، وصحة وسقم، وأمن وخوف، وغير ذلك، فيقع مرة ويقوم

أخرى، ويميل تارة ويعتدل أخرى، فيكفر عنه بالبلاء ويمحص به ويخلص من كدره، والكافر كله خبث ولا يصلح إلا للوقود فليس في إصابته في الدنيا بأنواع البلاء من الحكمة والرحمة ما في إصابة المؤمن فهذه حال المؤمن في الابتلاء” [مفتاح دار السعادة: [1 / 127.

قال ابن زيدون الشاعر الأندلسي في رائيته العذبة:

هل الرياح بنجم الأرض عاصفة أم الكسوف لغير الشمس والقمر

 

الصفة الثانية في النخلة أن ورقها لا يتساقط:

عن مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ ـ رضي الله عنهما ـ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَلَا يَتَحَاتُّ”، فَقَالَ الْقَوْمُ: هِيَ شَجَرَةُ كَذَا هِيَ شَجَرَةُ كَذَا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ فَاسْتَحْيَيْتُ،فَقَالَ: “هِيَ النَّخْلَةُ”.

“فالنخلة رغم جمالها الأخاذ لها شكل ظاهري واحد لا يتغير إلا للأحسن فيزداد حسنها بظهور ثمرها ودنو قطوفها، وللمؤمن أيضاً هيئة ظاهرية واحدة، لا يتقلب حسب الموضة والأهواء، ولكنه يتزين لزوجته فيسرها بمنظره قال ابن عباس: إني أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي، وهو يتزين في العيدين وقت قطوف ثواب الصوم والحج، [أليس العيد هو يوم الجوائز]، كما تتزين النخلة وقت قطوف الثمر، ويتزين يوم الجمعة، وعند المجالس، والمساجد ومقابلة الوفود، وهو يتزين بالمشروع ولا يتزين بغير المشروع، والمرأة كذلك، {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}.

قال القرطبي في تفسيره: «وزاد فيه الحارث بن أسامة زيادةً تساوي رحلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وهي النخلة لا تسقط لها أنملة، وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة» فبيّن معنى الحديث والمماثلة» [الجامع لأحكام القرآن (9/236)].

وذكر ابن القيّم رحمه الله في معنى الحديث وجهاً آخر وهو أنَّ ذلك يدلّ على: «دوام لباسها وزينتها فلا يسقط عنها صيفًا ولا شتاءً، كذلك المؤمن لا يزول عنه لباس التقوى وزينتها حتى يوافيَ ربَّه تعالى» [مفتاح دار السعادة (1/116)].

{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [سورة الأعراف 7/26].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى/

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد فاتقوا الله عباد الله

والصفة الثالثة في النخلة استمرار النفع:

فـ”النخلة هي سيدة المملكة النباتية من الناحية العلمية، الظاهرية، والتشريحية والوظائفية، والبيئية فهي: معمرة تتغلب على التقلبات السنوية، طيبة مثمرة نافعة” والمؤمن مثلها: فنفعه في كل حال، كالسراج ينتقل ضوؤه معه، شعاره قول الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {وجعلني مباركا أينما كنت}، لا يتوقف عن بذل المعروف والخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

ومن ذلك أيضا أن كلمته الطيبة عمرها ممتد، يقول الله جل في علاه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة إبراهيم 14/24-25].

وقال عدد من المفسرين الكبار “إن ذلك عبارة عن المؤمن، وقوله الطيب، وعمله الصالح، وإن المؤمن كالشجرة من النخل، لا يزال يرفع له عمل صالح في كل حين ووقت، وصباح ومساء”.

وقال الضحاك: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾: «تخرج ثمرها كلَّ حين، وهذا مثل المؤمن يعمل كلَّ حين كلَّ ساعة من النهار، وكلَّ ساعة من الليل وبالشتاء والصيف بطاعة الله» [رواه ابن جرير في تفسيره (8/208)].

وفي الحديث: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُتِي بقِناعِ جَزءٍ فقال: {مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} فقال: هي النَّخلةُ {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26] قال: هي الحنظلةُ، قال شُعيبٌ: فأخبَرْتُ بذلك أبا العاليةِ فقال: كذلك كنَّا نسمَعُ”. [صحيح ابن حبان وتفسير القرطبي].

 

 

الصفة الرابعة في النخلة تنوع النفع:

فالنخلة نافعة بثمارها، وأوراقها، وظلها، وجذعها، وخوصها، وكرانيفها، وليفها، وكروبها، وعذوقها، وأنويتها، وقطميرها، وجُمارها، ونفعها وجمالها في حياتها وبعد موتها.

والمؤمن أينما وقع نفع، وهو نافع: بعلمه، وأخلاقه، وماله، وجهده، وحديثه، وفضل زاده، وفضل ظهره، وفعله، وقوته، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وتعاونه على البر والتقوى، وتراحمه، وترابطه، وتآزره مع المجتمع.

حتى إذا مات فإن هناك ميادين للأجر والثواب مفتوحة له، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا ماتَ الرجلُ انقطعَ عملُهُ إلَّا من ثلاثٍ ولدٍ صالحٍ يدعو لَهُ، أو صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنتَفعُ بِهِ” [صحيح]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ ممَّا يلحقُ المُؤْمِنَ من عملِهِ وحسَناتِهِ بعدَ موتِهِ عِلمًا علَّمَهُ ونشرَهُ، وولدًا صالحًا ترَكَهُ، أوَ مُصحفًا ورَّثَهُ، أو مسجدًا بَناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بَناهُ، أو نَهْرًا أجراهُ، أو صدقةً أخرجَها من مالِهِ في صحَّتِهِ وحياتِهِ،تلحقُهُ من بعدِ مَوتِهِ” [حسن]. 

وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :” مَثَلُ المؤمنِ مَثَلُ النَّخلةِ ما أتاك منها نفَعك قُلْتُ هو في الصَّحيحِ خلا قولِه ما أتاك منها نفَعك” [إسناده صحيح ـ ابن حجر في فتح الباري].

الصفة الخامسة في النخلة مقابلة السيئة بالحسنة:

فالنخلة صبورة حليمة كريمة تُرمى بالحجر فتسقط أطيب الثمر، والمؤمن مثلها، معرض عن اللغو، يصفح عن المسيئين ولا يظلم أحدا، ولا يجهل على الجاهلين كما قال الشاعر:

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا يرمى بصخر فيلقي أطيب الثمر

قال الله جل في علاه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63(}.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين في الحدِّ الجنوبي وفي كل مكان، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا،

ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك حربا على أعدائك.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيء لأمة الإسلام أمرا رشدا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.



اترك تعليقاً