الخطبة الأولى/
اللهم لك الحمد على الإيمان، ولك الحمد على الإسلام، ولك الحمد على المعافاة، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم، أو حديث، أو حاضر، أو غائب، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد على حمدنا إياك، كبتَّ عدونا، وأظهرتَ أمننا، ومن كلِّ ما سألناك أعطيتنا. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [سورة النساء 4/1].
قال الحسن ـ رحمه الله ـ: “اتقوا الذي تساءلون به، واتقوه في الأرحام”. وأقرب رحمك والداك ومن تفرع عنهم، وولدك؛ أبناؤك وبناتك.
أيها الإخوة المؤمنون.. البنات عاطفةٌ وإحساس، ولطفٌ في التعامل والتماس، بركةٌ في البيت، وزيادةٌ في الرزق، وطريقٌ إلى الجنة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من كان له ثلاثُ بناتٍ فصبرَ عليهنَّ وأطعمهنَّ وسقاهنَّ وكساهنَّ من جِدَتِه كُنَّ لهُ حجابًا من النَّار يومَ القيامة” [حديث صحيح].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من عالَ ابنتين، أو ثلاثَ بنات، أو أختين، أو ثلاثَ أخواتٍ حتى يَمُتْنَ أو يموتَ عنهنَّ، كنتُ أنا وهو كهاتينِ وأشارَ بأُصبعيه السبابةِ والوسطى” [رواه أحمد وصححه الألباني]. هناك من يبحث عن يتيم يحسن إليه؛ ليحصل على هذا الفضل العظيم، والفرصة بين يديه في بيته.
البنتُ نعمةٌ وزينة، الدرةُ المصون، واللفتةُ الحنون، والجمالُ الرُّوحي، والشرفُ العالي، وأمُّ المستقبل، ومربيةُ الغد، ومحضنُ الجيل، لذا جعل الله لها حقًا على وليِّها، فالإحسانُ للبنتِ مظهرٌ من مظاهرِ الإنسانية، يتقربُ به الأتقياءُ الأصفياءُ، ويجهلُه غلاظُ القلوبِ القساة.
آباءَ البنات، وإخوانَ الفتيات.. أيها الكرماء
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينِ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَشْبَهَ كَلامًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا حَدِيثًا، وَلا جِلْسَةَ مِنْ فَاطِمَةَ ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَآهَا قَدْ أَقْبَلَتْ رَحَّبَ بِهَا، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا فَجَاءَ يُجْلِسُهَا فِي مَكَانِهِ، وَكَانَتْ إِذَا رَأَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحَبَتْ بِهِ، ثُمَّ قَامَتْ إِلَيْهِ قَبَّلَتْهُ…”.
هكذا كان يعاملُ نبيُّكم صلى الله عليه وسلم ابنتَه، ولكم فيه القدوةُ الحسنة.
وللعلمِ فإنه كلما كبرت الفتاةُ احتاجت إلى مزيدٍ من الشعورِ بالتقدير والاحترام، فإذا وُفِّرت لها هذه الحاجةُ وأحسَّت بأن لها في بيت أبويها قيمةً ومنزلة، كان ذلك أدعى إلى استقرار نفسيتها وطُمأنينتها واستقامة أحوالها، وخصوصًا إذا كانت مطلقة، أما إذا رأت الاحتقارَ والإهمالَ فلا تُعامل إلا بلغةِ الأمر والنهي وطلبِ الخدمة، وغابت عنها كلماتُ الحبِّ والحنان، أورثَها ذلك كُرهًا لبيتِها ولأهلِها وربما وسوسَ لها الشيطانُ فأخذت تبحثُ عما تفقدُ خارجَ بيتِها لا قدَّرَ الله تعالى فتقعُ في المحظور والإثم العظيم.
ويجب العدلُ بينها وبين إخوتِها من الذكورِ والإناث، فإن الشعورَ بالظلمِ والانحيازِ إلى غيرِها أكثرُ ما يزرعُ في نفسِها كرهَ أبويها والحقدَ على من فُضِّل عليها من إخوتها أو أخواتها، فاتقوا اللهَ و”اعدلوا بين أولادكم” [رواه مسلم]، “أليسَ يسرُّكَ أن يكونوا لكَ في البرِّ واللُّطفِ سواءٌ”؟! [رواه أبوداود وهو صحيح]، هكذا وجهَنا صلى الله عليه وسلم، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} [سورة الأحزاب 33/36].
ومن خلال عدد من الدراسات واستكناه الواقع، أضعُ بين يديكَ أيُّها الأبُ الحنون، والأخُ الفاضل إجابةَ لسؤال: ماذا تحتاجُ الفتاة العشرينية أو أكبر من ذلك (التي لم تتزوج بعد) من وليِّها؟
إن أولَ ما ينبغي العنايةُ به هو آخرتُها، بحثِّها على ما يقرِّبُها من ربِّها تعالى، ومتابعتُها في أداء الفرائضِ في أوقاتِها بالإحسان، والتمسكِ بحجابِها كما أمرَ اللهُ تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك تلبيةُ احتياجِها النفسيِّ بالاستماعِ إليها والإصغاءِ إلى مشاعرِها، والاهتمامِ بطموحاتِها وتبني مشروعاتِها، والمبادرةِ بتلبيةِ احتياجاتِها اليوميةِ دونَ طلبٍ منها، وتخصيصِ وقتٍ للتنزهِ مع الأسرةِ ومعَها، وإهداؤها بين الفينة والفينة، ومتابعةُ دراستِها، وتشجيعُها على الدراساتِ العُليا إذا أكملت دراستَها الجامعية، والبحثُ عن فرصٍ لتنمية مهاراتها، وتسجيلُها في نادٍ رياضي خاص بالنساء إذا رغبت، وتشجيعُها على البدء في مشروع تجاري مناسب لها، ومساندتُها ماليًا بعد التأكد من جدواه ماليا، والسعيُ في عمل وظيفي مناسب لها، والدفاعُ عنها حين يتنمرُّ عليها أحدٌ من الأسرة أو من خارجها، وتسويةُ ما قد يتوترُ من علاقاتها مع أفراد العائلة، وتحذيرُها من خطورة التواصل الافتراضي، وتوعيتُها بالاستفادة منه مع الحذر الشديد من الوقوع في شباك المبتزين، واستشارتُها في بعض الأمور الأسرية؛ لتعزيز انتمائها لأسرتها، ومنحُها الثقة بأن تتخذَ قراراتِها الشخصية بعد الاستشارة والاستخارة، والحرصُ على تزويجها من كفءٍ لها، وتشجيعُها على مساعدة أمها في أعمال المنزل، ومحاسبتُها على انفرادٍ وبرفق على أخطائها، وتشجيعُها على فرص ِالتطوع النسائية الآمنة، والدعاءُ لها وهي تسمع، وفي الخلوات والسجدات، {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) } [النساء]. عباد الله، توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى/
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ونعّمنا بنهجه العظيم، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد فاتقوا الله عباد الله، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3)}[الطلاق].
أيها الإخوة الفضلاء
كان أهلُ الزوجة – قبل عقود – إذا غاضبها زوجُها، ورجعت إليهم، أعادوها إليه، بعد أن يسعوا في الصلح بينهما، ويُرضونها، فيحسنون بذلك لها وله ولأولادهما، {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)} [النساء].
وقد يخطئون في حق ابنتهم، رغبةً منهم في بقائها مع زوجها فيحرمونها حتى من مجرد حقِّها في الشكوى، والاستماع إلى ما ساءها من زوجها، من سلوك، أو تلفظٍ غير حسن، أو ضربٍ، أو بخل، ونحو ذلك، فيرجعونها إليه دون رضاها، ودونَ البحثِ في المشكلة أو محاولة معالجتها، فتشعرُ بالضيم والقهر، ويرون أنهم أصابوا في ذلك، وأن ذلك من صالحها، وليس ذلك ـ والله ـ من الصواب. بل كان لا بد من الإنصات إلى شكواها، والتخفيفِ من حزنها، والتباحثِ معها فيما يوفِّقُ بين قلبها وقلب زوجها، حتى يدومَ الوئام، وتنجو ابنتُهم من مغبة الحزن والاكتئاب وآثارهما الـمَـَرضِيَّة على نفسها وجسدها، وحتى على علاقتها بزوجها وتربية أولادها، وحتى لا يجرِّؤا زوجَها الظالمَ على الاعتداء عليها حين يشعر بأنها بلا سند، ويكون هو بلا مروءة ولا مودة ولا رحمة.
وفي عصرنا هذا حدث العكس تمامًا، حتى صارت بعضُ الأسر، تشجعُ ابنتها على التعبير عن غضبها من أي تصرف من الزوج بالعودة إليهم، والبقاء لأيام وربما شهور، ثم يعززون موقفها الخاطئ هذا، دون محاولة جادة لإيجاد حلٍّ للمشكلة، بل ربما شجعوها على طلب الطلاقِ دونما بأسٍ فتقع في الإثم العظيم، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أيُّما امرأةٍ سألت زوجَها طلاقًا من غير بأسٍ [أي: من غير شدة تلجئها إلى سؤال المفارقة]، فحرامٌ عليها رائحةُ الجنةِ” [حديث صحيح]، وقد يجبرونها على الطلاق، وأنهم بريؤون منها لو عادت لزوجها!! وأنهم كما ربوها صغيرة، فلن يضيعوها كبيرة!!
وما كان فعلهم هذا إلا الضياعَ بعينه!!
فهل سيبقون لها مدى عمرها؟
وهل هناك من يقوم مقام زوجِها إذا فقدته؟
هي في بيت زوجِها سيدةُ الدار، وفي بيتِ والدها واحدةٌ من أفراد الأسرة.
أقولها لكل أبٍ أو أمٍّ أصرّا على طلاقِ ابنتهم مع رغبتها في العودة لزوجها، ربما انتقامًا لأنفسهم بسبب خلاف ما، وربما خوفًا عليها دون مسوغ: لقد ظلمتم ابنتَكم، وظلمتم زوجَها، وظلمتم أولادَها؟!
وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
ماذا ستقولون لربكم إذا سألكم: لماذا فرقتم بين ابنتكم وزوجها وأولادها؟
وماذا ستقولون لأطفالٍ صغارٍ أو شبابٍ يافعين حرمتموهم من كنفِ بيتٍ واحدٍ يضمُّهم بوالديهم؟! بماذا ستجيبونهم إذا كبروا وسألوكم: من شتتنا؟!
نعم.. لابد من الصلحِ العادلِ الذي يعودُ فيه الحقُّ لكلا الطرفين، ويقومُ كلٌّ منهما بواجباته، كما له أن يحصلَ على حقوقِه، وذلك عن طريقِ المصلحين من أهل الزوجين أو من غيرهم. قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)} [النساء].
نيةُ الحكمين من أهل الطرفين إذا حَسُنت وأرادا الإصلاح وليس التفريق، استنزلت توفيق الله والصلح بين الزوجين، والله المستعان وعليه التكلان.
اللهم ارزقنا حبًا لبناتنا، وحبَّ بناتِنا لنا، واجعلهنَّ لنا قرة أعين، واحرسهنَّ من كل مكروه، وأسبغ عليهنَّ سترك الجميل، وبلغنا فيهنَّ كل خير، وحبب لهنَّ الهدى والتقى والعفاف والإخلاص، واجعلهنَّ قانتات، عابدات، ذاكرات، مؤمنات، إنك سميع الدعاء.
اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وبارك لنا في دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده لما تحبه وترضاه، وارزقهما البطانة الصالحة التي تعينهما على الخير وتدلهما عليه، واجعل بلادنا هذه وسائر بلاد المسلمين في أمن وأمان وإيمان، إنك جواد كريم.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن بقية الآل والصحب أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
————————————————————–
خطبة/ العلاقة الوالدية مع البنت/ جامع الخضري/5/2/1446