الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، تفرد بالبقاء، واتصف بالكبرياء، وأشهد ألا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا أنتم ومسلمون
أحبتي في الله قبل أيام استقبلنا الشهر العظيم، وها نحن أولاء اليوم نقف على مشارف توديعه، وقد استودعنا فيه ما وفقنا لعمله من الصالحات، ونحن نرجوه ـ عز وجل ـ أن يستر عيوبنا، ويجبر تقصيرنا، ويتجاوز عن خطايانا، ويبارك في حسناتنا، وأن يكفينا شر محبطات الأعمال من عُجب وسمعة ورياء.
و”إنما الأعمال بخواتيمها” كما في صحيح البخاري عن رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولذلك فإن السعيد من يزيد في العمل كلما قارب الشهر منتهاه، ويجتهد في العبادة أكثر، وإن المؤمنين الصادقين مع ربهم ـ جل وعلا ـ هم الذين وصفهم تعالى: {الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}”. ومع ذلك الوجل فإن رجاءهم في الله عظيم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل”. [رواه مسلم برقم 2877].
لله شهر حل كالضيف الحبيب الخفيف، سرعان ما حزم حقائبه وعزم على الرحيل؛ ليتركنا مع ذكريات جميلة، وكأن آخر يوم منه أول يوم استقبلناه فيه، حينها التفتت القلوب قبل الأنظار، لا لأننا نثق في أعمالنا، ولكن لأننا نرجو فيه رحمة ربنا:
نعنو وجوهًا للإله وتستحي |
|
في صومنا الأقوال والأفعال |
حتى إذا أزف الوداعُ وأوشكت |
|
نذر الفراق على الربا تنهال |
عشناك شوقًا لا يزول وفرحة |
|
لا تنتهي وإن انتهت آجال |
ومن الناس من كنت له واحة خضراء، زرع فجنى، وأخذ واستزاد، تعلم من صومه أن النفس تصبر عما اعتادته إذا أرادت، وأن الجسد الذي صبر عن الشهوة المباحة في زمن محدود لديه الاستطاعة أن يصبر عن الشهوة المحرمة في كل وقت، وتعلم أن روح الصيام هي التقوى التي تعيد إلى الإنسان إنسانيته التي يفتقدها أحيانًا إذا أطلت رغبة أو رهبة، فعزم أن يعيشك في سائر أيامه:
إذا ما المرء صام عن الدنايا فكل شهوره شهر الصيام
هكذا ينبغي أن يكون المسلم، فكل خير تلقاه من شهر الصيام يجب أن يحظى منه بالديمومة والاستمرار، وكل عادة سيئة أقلع عنها يجب ألا يعود إليها مروءة وشيمة وعزيمة، وقبل كل ذلك دينا وتقوى.
تذكر أنك كنت شهرا كاملا، فلا تدع صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن كنت تتلو كل يوم جزءا من القرآن، فتمسك بهذا الورد وراقب البركة كيف تنمو في وقتك وحياتك، وأنك كنت تقوم مع الإمام حتى ينصرف، فلا أقل من أن تحافظ على ثلاث ركعات الوتر، ومن زاد زاد الله له وبارك، وأنك كنت تحافظ على الصلوات وصلاة الفجر خصوصا، فكن من أهلها، ففي صحح مسلم: “دَخَلَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ المَسْجِدَ بَعْدَ صَلَاةِ المَغْرِبِ، فَقَعَدَ وَحْدَهُ، فَقَعَدْتُ إلَيْهِ فَقالَ: يا ابْنَ أَخِي، سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ”.
وليكن أول عمل تقوم به بعد رمضان صيام ستٍ من شوال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ مَنْ صامَ رمضانَ، وسِتَّةَ أيامٍ مِن شوَّالٍ، فكأنَّما صامَ السَّنَةَ كُلَّها” [حديث صحيح لغيره].
ولا يسلي المؤمن في فراق رمضان إلا أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المبشرة بالمغفرة لمن صام وقام رمضان إيمانا واحتسابًا، نسأل الله أن نكون ممن وقاهم ربهم النار وفازوا بالجنان، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الأخرى :
الحمد لله الذي جعل الدنيا مزرعة للآخرة، وفسح فيها من فضله ومنته أن جعل من أعمال المسلم ما تجري حسناته له دون أن يعلم، تلك الصدقة الجارية، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فاتقوا الله عباد الله
فلقد علم سلف هذه الأمة أن الدنيا قصيرة، وأنهم مهما عملوا فيها فإنها ستنقطع وتنتهي، فالتفتوا إلى أعمال لها خصوصية عظيمة، تلك هي الأعمال التي يبقى ثوابها بعد أن يرحل الإنسان من هذه الأرض، فتسابقوا إليها وتنافسوا فيها؛ فقهوا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” [رواه مسلم].
ومن الصدقة الجارية (الإحسان الشهري) الذي تيسر في هذا الزمان عن طريق البنوك؛ لتحقيق مصالح عظيمة، وهو قربة من القرب التي يتقرب بها إليه؛ ففي الحديث الحسن الذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “سبعٌ يَجري للعبدِ أجرُهُنَّ، وهوَ في قَبرِه بعدَ موتِه: مَن علَّمَ علمًا، أو أجرَى نهرًا، أو حفَر بِئرًا، أوغرَسَ نخلًا، أو بنَى مسجِدًا، أو ورَّثَ مُصحفًا، أو ترَكَ ولدًا يستغفِرُ لهُ بعد موتِه”.
ويتمثل الإحسان الشهري فيما يسمى: (الاستقطاع الشهري)، أو الأمر المستديم، صدقة يصدق فيها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ورجلٌ تصَدَّق، أخفَى حتى لا تَعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه” وهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. فلنتسابق إليها، لتبارك أموالنا، إذا تقبلها بارئنا.
إن أفضل أنواع الصدقات أنفعها وأدومها، ويتأتى هذا إذا كانت الصدقة تقوم على أساس شرعي، وتنشأ من أجل هدف محمود، وترمي إلى غاية شرعية خيرة. وتقوم عليها جمعيات موثوقة، تعمل تحت إشراف المركز الوطني للقطاع غير الربحي والوزارة المعنية، ومنها اللجان والجمعيات التي تقوم بالإصلاح بين الناس، تلك العبادة التي يقول فيها الله جل في علاه: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيمًا} [سورة النساء 4/114]، وإصلاح الحياة الزوجية وتربية الأولاد، هو إصلاح للحياة كلها، فكل فرد في أسرة، وكلما كانت الحاجة إلى أمر، كانت الصدقة عليه أفضل، ولذلك فإني أحثك ونفسي للمشاركة بما تستطيع، بأن تعطي أمرا مستديما للجمعيات القائمة على هذا الشأن، وغيرها من الجمعيات الخيرية لتشاركها وأنت في بيتك وعملك في تفريج الكرب، وتنفيس الهموم، ومعالجة المشكلات الناتجة عن الخلافات الأسرية، التي تؤدي إلى هدم البيوت، وكسر النفوس، وزيادة المنازعات حتى بين الأرحام، {.. ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة..} [متفق عليه].
إن أي عمل طيب وكريم فإنه يحتاج إلى مساندة مالية، وقليل المخلصين كثير عند الله تعالى: “سبق درهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ فقال رجلٌ وكيف ذاك يا رسولَ اللهِ، فالرَّجلُ له مالٌ كثيرٌ أخذ من عرَضِه مائةَ ألفِ درهمٍ تصدَّق بها ورجلٌ ليس له إلَّا درهمان فأخذ أحدَهما فتصدَّق به” (حسن الإسناد).
فلتنْوِهِ لك أو لوالديك، أو لأولادك غرسا نافعا لهم ينمو عند ربهم عز وجل حسنات وافرة، تقرب إلى الله تعالى به ليصلحهم وليرزقك برهم، وليحفظهم ويصونهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
إن الإسهام في هذه الجمعيات والمراكز لهو من أعظم العبادات، فهي تقوم بتأهيل الفقراء ذكورا وإناثا؛ لينتقلوا من حال الفقر إلى حال الغنى عن الناس. وتقوم على رعاية الأيتام في الشأن الذي لا يقوم به حتى من يكفلونهم؛ من رعاية نفسية، وبناء للثقة في النفس، واهتمام بتقدمهم في دراستهم، وتربيتهم على التفاؤل والطموح؛ حتى يكونوا لبنات صالحة مصلحة لأوطانهم، وتقوم بتأهيل الصماوات؛ ليكون قادرات على العمل، وتحفظ أوقات الفتيات في أندية خاصة بهن، والشباب في برامج تطوعية يستثمرون فيها طاقاتهم للمشاركة في بناء مجتمعهم خدمة وطنهم، وتنمية مهاراتهم.
لا شك بأنك إذا شاركت في هذه الصدقة الخفية عنك وعن أولادك، فقد تنال هذه الفضائل الثلاث: صدقةً جارية، وعلما ينتفع به، وولدا صالحا يدعو له. وأولادك يستحقون منك أكثر، فهم ذخرك في حياتك وبعد مماتاك، استغفار الولد يرفع منزلة والده في الجنة.
{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}(آل عمران92), لقد فهم الصحابة رضي الله عنهم هذه الآية فهماً عميقاً، حتى كان بعضهم ينظر فيختار أفضل ماله، وأحبه إليه فيتصدق به. فالمال مال الله، جعله في أيدينا لمنافع العباد، يقول عليه الصلاة والسلام:”إن لله أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، و يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم” [حسن، الألباني – السلسلة الصحيحة: 1692 ].
اللهم اجعل أنفاسنا في طاعتك، ووفقنا للعمل الصالح الذي يرضيك عنا ويقربنا إليك، وأيقظنا لتدارك بقايا الأعمال، ووفقنا للتزود من الخير والاستكثار.
ربنا تقبل منا ما وفقتنا إليه من الأعمال في شهر رمضان المبارك، واختمه لنا بخير، وأعده علينا.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين في كل مكان وفي الحد الجنوبي خصوصا، وألف ذات بينهم، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك حربا على أعدائك. اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن مدينيهم، واهد ضالهم.
اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده وأعوانهم لكل ما فيه الخير والأمان للعباد والبلاد، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، إنك سميع الدعاء.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.