عرفة ودروس من الحج

الخطبة الأولى/

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين     أما بعد

فأوصيكم ـ إخوتي في الله ـ ونفسي الخاطئة بتقوى الله عز وجل وطاعته؛ كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إ لا وأنتم مسلمون} وقال عز وجل: {ومن يتق الله يجعله مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}.

أيها الإخوة المؤمنون هذه عشر ذي الحجة تمر بنا سريعا حافلة بكل خير لمن عرف فضلها فعمل فيها وأحسن، محتسبا الأجر والثواب الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يا رسول ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك شيء”.

وإن من أعظم هذه الأيام قدرًا عند الله تاسعُها يوم عرفة هذا اليوم الذي يقول فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: ‏”ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة”. [رواه مسلم].

في هذا اليوم المبارك يتجاوز الله عن الذنوب العظام بفضله ورحمته، ويلتقي فيه الحجاج من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم وليذكروا اسم الله في أيام معلومات، ويشكروه ويستغفروه؛ خائفين من عذابه راجين رحمته، يجددون العهد مع الله أن ينخلعوا من جميع الآثام والخطايا؛ ليستأنفوا حياة جديدة نظيفة مستقيمة بعد أن أملوا من الله أن يرجعوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم كما بشرهم بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

هنيئا لوفود الرحمن وقوفهم عند جبل الرحمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مالك عن عبيد الله بن كريز قال: “ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغرُ ولا أحقرُ ولا أدحرُ ولا أغيظُ منه في يوم عرفه؛ وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر”، قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة” أي: يرتبهم ويسوي صفوفهم.

وفي يوم عرفه يباهي الله الملائكة بأهل عرفه فيقول: “انظروا إلى عبادي أتوني شُعثًا غُبْرًا ضاحين من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم”.

فطوبي لمن أقبل على الله في هذه اللحظات المباركات ليفوز بأعظم غنيمة وهي العتق من النار والفوز بالمغفرة.

طوبى للحاج الذي لا يغفل عن الذكر والشكر والحمد لله والإلحاح بالدعاء والتلبية في اليوم العظيم باكيا أو متباكيًا على ما كان منه سائلا الله تعالى العون على طاعته مؤكدا العزم على توبة نصوح.

وطوبى لمن شارك الحجاج يومهم وإن لم يحج شاركهم في التعرض لنفحات الله في هذا اليوم العظيم فاستجاب لترغيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيامه حين قال مجيبًا من سأله عن صوم يوم عرفة: “يكفر السنة الماضية والباقية”؛ ولذلك قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: “ما من يوم من السنة صومه أحب إليَّ من يوم عرفة” [أخرجه ابن أبي شيبة 3/96، والبيهقي في فضائل الأوقات 362].  وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كان يقال في أيام العشر كل يوم ألف يوم، ويوم عرفة عشرة آلاف” قال يعني في الفضل. وهذه المضاعفة تختلف باختلاف الصائمين في الإخلاص والتحفظ في الصوم، فكل من كان أشد تحفظا، وأكثر يقينا كان صومه أكثر ثوابا. [المصدر السابق: 362].

هذا يوم المغفرة يا تائبون، هذا يوم الرحمة يا أوابون، فهل لنا منه نصيب؟ أم ستلهينا الدنيا فيه عن فضله وخصوصيته؟ أكثروا فيه من الصلاة والصدقة، ورطبوا فيه ألسنتكم بالذكر والدعاء: ففي الموطأ [1/167-168]، عن طلحة بن عبيد مرسلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له”.

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)} [البقرة].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغور الرحيم

 

الخطبة الأخرى/

الحمد لله الذي يسر لعباده أفضل الطاعات، وحثهم على طلب أعلى الدرجات، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك مسلكه إلى يوم الدين.

أما بعد فاتقوا الله عباد الله، واعلموا بأن من أجل العبادات التي تقام في هذه الأيام عبادةً حبيبة إلى الرحمن، خفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان، يفر منها الشيطان إنها عبادة الذكر للجليل الرحمن، خصها الله تعالى بقوله: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أيام العشر. قال الإمام البخاري رحمه الله: “كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما” وقال أيضا: “وكان عمر يكبر في قبته فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا”.

“وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعا”. والمستحب الجهر بالتكبير لفعل عمر وابنه وأبي هريرة رضي الله عنهم.

وليوم عرفة خصوصية في عبادة الذكر والدعاء، فهو أفضل أيام السنة، روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {وشاهد ومشهود} قال: “الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة”. ومن عظم هذا اليوم أن جاء بعده يوم العيد الأكبر، بعد أداء الحجاج أعظم أركان الحج، فهو فرحة بإتمام ركن النسك الأعظم. وحري بنا نحن المسلمين أن نحيي هذه السنة التي قد أضيعت في هذه الأزمان، وتكاد تنسى حتى من أهل الصلاح والخير بخلاف ما كان عليه السلف الصالح.

لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم        لبيت طهور الساح والعرصـات

أرى الناس أصنافا ومن كل بقعة         إليك انتهوا من غربة وشـتـات

تساووا فلا الأنساب فيها تفاوت         لديك ولا الأقدار مخـتـلفـات

إن من أهم أسرار الحج أنه يربطنا بقدوتنا العظمى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال: “خذوا عني مناسككم”، فالمسلم الذي راح يسأل ويتحرى أن يكون حجه كله وفق الهدي النبوي الكريم، يرجو ألا يحيد عنه، رجاء قبوله، ينبغي له كذلك أن يتأسى به في كل حياته، فالله تعالى يقول في محكم التنزيل: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}. إنها آية عظيمة تضع المسلم أمام حقيقة ربما غفل عنها في خضم الحياة، وهي أن حياة الإنسان كلَّها، بل ومماتَه يجب أن يكونا وفق نهجه وهديه كما هو شأن صلاته وعبادته المحضة، يتقفى في ذلك كله أثر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فلا يستعير منهجا لماله من جهة، ومنهجا لأسرته من جهة ثانية، ومنهجا لفكره من جهة ثالثة، ولا يدع لله إلا ركعات ربما لا يدري ماذا قال فيها، وصياما فقد حقيقته، وحجا جهل أسراره، فعاشه بجسده ولم يعشه بقلبه، فإن الإسلام جاء لينظم الحياة كلها بلا استثناء.

ومن أسرار الحج كذلك أنه يعطي صورة رائعة للوحدة التي يجب على المسلمين أن يسعوا إلى تحقيقها، فها هم أولاء قد تجمعوا من كل فج عميق، أبيضُهم وأسودُهم، شرقيُّهم وغربيُّهم، عربيُّهم وأعجميُّهم، غنيُّهم وفقيرهم، لا تجمع بينهم سوى رابطةِ الدين وحبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يرتدون لباسا واحدا، ويهتفون هتافا واحدا، ويرجون ربا واحدا. قد ضحوا بأنفسهم فعرضوها لمخاطر الأسفار، وضحوا بأموالهم فأنفقوها راضية بها نفوسهم، وضحوا بأوقاتهم فاقتطعوا منها أياما وربما شهورا، وضحوا بقربهم من أهلهم وديارهم وأسواقهم فتركوها في سبيل الله، وضحوا بجمالاتهم التي كانوا يحرصون عليها، فتجردوا من كل زينة ليبقوا أياما معدودات بلباس الإحرام المتواضع، الذي لا مباهاة فيه بين رجل وآخر، ولا مدعاة فيه لعجب أو رياء أو خيلاء، وتلك تربية للنفس على بذل كل شيء من أجل إرضاء خالقها تعالى ومحبته، ليس في الحج وحده، بل في سائر أيام العمر.

فاللهم أتم على حجاج بيتك حجهم، وتقبل منا ومنهم، وأشركنا معهم في أجرهم ودعائهم.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين في ثغورنا وفي كل ثغور المسلمين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم.

اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده وأعوانهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وأصلح بهم أمور البلاد والعباد.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيء لأمة الإسلام أمرا رشدا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك  ومنك يا أكرم الأكرمين.