الخطبة الأولى:
الحمد لله المجيد المنان، الذي شرفنا بأن جعلنا من أمة القرآن، المعجزة الخالدة على تعاقب الأزمان، أحمده على نعمه التي لا تحصى، وعطاياه التي لا تجزى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو أن ننال بها الغفران، وأن محمدًا عبده ورسوله، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صراط مستقيم، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها المسلمون: أنزل الله -سبحانه وتعالى- القرآن الكريم على محمد -صلى الله عليه وسلم- رحمةً للعالمين، في أعظم الأزمان وأشرف الشهور: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة: 185]، واختار له ليلة القدر الشريفة: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[القدر: 1] التي هي خير من ألف شهر، فكان المعجزةَ التي تحدى الله بها الثقلين: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء: 88]، وجعله ميسرًا للتلاوة والحفظ والفهم ببذل القليل من الجهد: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)[القمر: 17].
وقد فضل الله -تعالى- القرآن على سائر كتبه، وجعله ناسخًا لها ومهيمناً عليها، فقال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)[المائدة: 48].
الله أكبر إن دين محمدٍ *** وصراطه أقوى وأقوم قيلاً
لا تذكروا الكتب السوالف قبله *** طلع الصباح فأطفئ القنديلا
فما أعظم وما أجل أن تنعقد بينك وبينه -أيها المؤمن الموفق- صِلةٌ وثقى، تحني عليه جِذعك، وتسرج له نور عينيك، ويعيه عقلُك، ويتعلق به قلبُك، وقد وفقك الله إلى قراءته كله ربما أكثر من مرة، فحاشاك وأنت المسلم المحب لكتاب الله أن ترضى أن تكون ممن يشكو نبيُّك -صلى الله عليه وسلم- إلى الله -تعالى- منهم في قوله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[الفرقان: 30].
وكيف تهجره وقد تذوقت حلاوته، وسبحت في إشراقاته، وعشت معه الحياة الهنيئة، وقد علمت الأجر المترتب على قراءته من قول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: “من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها”(رواه الترمذي وقال: “حديث حسن صحيح”).
أما قارئ القرآن والقائم به المتعاهد له، فهو في المقام الرفيع والمنازل العالية، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “والذي يقرأ القرآن وهو ماهر به، مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق فله أجران”(متفق عليه).
وقارئ القرآن يرتقي في درج الجنة بقدر اهتمامه بكتاب الله؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آيةٍ تقرؤها”(رواه أحمد والترمذي وهو صحيح الإسناد).
والقرآن شفيع لأصحابه يُحلُّ عليهم رضوانَ الله، ويأخذ بأيديهم إلى جناته، فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه”(رواه مسلم).
ولا يزال القرآن الكريم يطلب المزيد لصاحبه من نعيم الله حتى يُلْبَسَ حُلَّة الكرامة وتاجها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يجيء يوم القيامة فيقول: يا رب حَلِّه فَيُلبَسُ تاج الكرامة ثم يقول: يا رب زِدْه، فَيُلبَسُ حُلَّة الكرامة ثم يقول: يا رب ارض عنه فيرضى عنه”(رواه الترمذي وقال: “حديث حسن”).
أيها الأحبة في الله: ما أجزل الثوابَ وما أكرمَ المعطي! فهل نحن نواظب على قراءة القرآن فلا يمر يوم بنا إلا وقد قرأنا منه وردًا وتدبرناه، واتعظنا بما فيه، فازدجرنا بزواجره، وأتمرنا بأوامره.
وازدادت خشيتُنا من الله، وخوفُنا من عذابه، ومحبتُنا له وطمعُنا في جنته.
دعني ووصفيَ آياتٍ له ظهرت *** ظهورَ نارِ القِرى ليلاً على علمِ
فالدُّرُّ يزدادُ حُسْنا وهو منتظمٌ *** وليس ينقص قدرًا غيرَ منتظمِ
قَرَّتْ بها عينُ قاريها فقلتُ له *** لقد ظفرتَ بحبلِ الله فاعتصم
إن تتلها خِيفةٌ من حرِّ نار لظى *** أطفأت حَرَّ لظى من وردها الشبم
ويكفيك يا حامل القرآن أن تكون من أهل الله وخاصته، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن لله -تعالى- أهلين من الناس، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته”(رواه أحمد والحديث صحيح).
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: إن الناس ليتنافسون على تحصيل الدنيا وهم يعلمون بأنها فانية، وأما صاحب القرآن فإنما تنافسه على ما يبقى، فهو إذن الجدير بالغبطة حقًا، ففي الحديث الذي رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا حسد إلا في اثنين: رجلٌ علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أوتي فلان، فعملتُ مثلَ ما يعمل ورجل آتاه الله مالًا فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيتُ مثلَ ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل”
فواصِلْ -يا عبدَ الله- رحلتَك مع القران الكريم، تعَلُّمًا وتعليمًا، تلاوة وحفظًا، ورغِّب أولادَك وجيرانَك وأقاربَك من ذكور وإناث في المشاركة في حلقات تحفيظ القرآن، واعلم بأنه ينبغي ألا تغيب عنك حقيقة الإخلاص في قراءته وحفظه، واحذر أن تقصد به عَرَضًا من أعراض الدنيا الفانية، فتكون قراءة البعيد وبالًا عليه، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “اقرأوا القرآن وابتغوا به الله -تعالى- من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه”(رواه أحمد وأبو داود، وهو حديث حسن)
وفي حديث رواه مسلم وأحمد والنسائي، ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الذين يُقضَى بينهم أولاً يوم القيامة: “رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمة فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأتُ فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به سحب على وجهه حتى ألقي في النار…”، فالحذرَ الحذرَ من الرياء وحب السمعة، وليعلم القارئ أن ما عند الله من الثواب خير وأبقى من مديح الناس وثنائهم.
وينبغي للمسلم أن يتطهر ويتوضأ عند إرادته تلاوة القرآن في المصحف، وأن يعتني بتحسين صورته وإعطاء كل حرف حقه ومستحقه في المخارج وأحكام التجويد المختلفة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ ففي الحديث الصحيح عن البراء بن غارب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا”.
وقد مر النبي -صلى الله عليه وسلم- عند منزل أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-، فسمعه يقرأ القرآن بصوت جميل متخشع، فجلس يستمع إلى قراءته، ولما لقيه في الصباح قال له صلى الله عليه وسلم: “يا أبا موسى لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود”(رواه البخاري).
وأخرج ابن أبي داود عن طارق بن أبي مسجعة قال: “كان عمر -رضي الله عنه- يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي القوم” كما نقل ذلك صاحب فتح الباري في مصنعه.
ومن آداب قارئ القرآن: أن يتفكر فيما يقرأ حتى تؤدي القراءة ثمارها، فيفهم المعنى المراد، ويصل إلى الفهم المطلوب، قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24]؛ لذلك يستحب ترديد الآية أحيانا للتدبر، وقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بآيةٍ يرددها حتى أصبح وهي: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[المائدة: 118].
اللَّهُمَّ إِنّا عَبْيدُكَ، بنوُ عبيدكَ، أبناء إمائكَ، نواصينا بيدك، مَاضٍ فِينا حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِينا قَضَاؤُكَ، نَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلوبنا، وَنُورَ صَدورنا، وَجَلَاءَ أحزاننا، وَذَهَابَ همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم اجعل القرآن لنا في الدنيا قرينا، وفي القبر مؤنسا، وفي القيامة شفيعا وعلى الصراط نورا، وإلى الجنة رفيقا، ومن النار سترا وحجابا وإلى الخيرات كلها دليلاً وإماما بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين واحم حوزة الدين، وانصر إخواننا المجاهدين في الحد الجنوبي وفي كل مكان، وكن مع إخواننا المستضعفين، أطعم جائعهم، واكسُ عاريهم، واحم أعراضهم وأموالهم وأنفسهم، وثبتهم على الإيمان والدين واحرسهم من كيد الكائدين، اللهم أصلح أحوالنا، وأيد أولياء أمورنا في الحق بتأييدك، وارزقهم البطانة الناصحة الصالحة، وثبتهم على ما تحب وترضى، وأنزل علينا من بركات السماء.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حيُّ يا قيوم.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا واسع الرحمات.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.