عجبت لبعض نقادنا حين يفرقون في اتخاذ الموقف النقدي من فريقين من شعرائنا المعاصرين ، فهم يَسِمُون المحافظين منهم على عمود الشعر العربي بالمقلدين ، وإن أفادوا من تنوع الشعر التفعيلي في الموسيقى ، ومن تقنيات الصورة الحديثة ، وإن برزت في شعرهم روح العصر ونَفَسه ؛ بحجة أنهم يتقفون آثار المتنبي وأبي تمام وأضرابهما ، بينما يمنحون لقب المجددين والحداثيين لمن ألغى عمود الشعر من حسابه، و( فجر ) اللغة ، واستدبر التراث ، وعقد الصور على قرائن غائمة ؛ متأسيا آثار شعراء الغرب في كل ما يكتب موضوعا وفنا . فإني لست أدري لماذا التفريق بين النمطين : أليس كل من الفريقين مقلدا لغيره ، وإن اختلف مع الآخر في من يقلد ؟
إنني كنت ـ ولا أزال ـ أقول : إن اللغة الأخرى التي يمتلكها الشاعر هي مفتاحه السحري على عوالم تجديدية لم يألفها من قبل ، وإن كثيرا من المجددين قديما وحديثا كانوا يملكون ثقافات أخرى ، ولكن ذلك لا يعني الذوبان في الآخر ، بل الإفادة والتلاقح ؛ لتبقى للشاعر أصالته وبصمته الخاصة به .
إن المعاصرة : (( ليست في المعايشة الزمانية فقط ، أو الانقطاع عن التراث ، أو الاهتمام بمشكلات العصر ، وإنما هي في التشبع بروح العصر ومتطلباته ، والصلة القوية بما يصلح من التراث ، والتعبير عن أزمات الإنسان المعاصر ومعاناته )) .
ولكن وصف التجديد ارتبط عند بعض المعاصرين باحتذاء الأنموذج الغربي في شكله ومضمونه ، والركض ـ دون وعي ثقافي ـ خلف جميع تجاربه ووسائله الفنية ؛ حتى كثرت في أشعار هؤلاء صور الصليب بالمفهوم النصراني ، وآلهة اليونان بالمفهوم الوثني ، والأدب المكشوف كما عرفوه عن الشاعر الفرنسي بودلير ومدرسته الرمزية ووليدتها الحداثية ، والتأملات الملحدة والمتمردة كما تلقوها عن شعراء الوجودية ، ومقلديهم من مدرسة المهجر . والواقع غير ذلك ، فإن التجديد روح العصر الذي تتمثله نفس حساسة ، تتمتع بأصالتها الفكرية مع امتداد جذورها في الماضي الزاهر ، وتنطلق من عفويتها وطبعها إلى آفاق الإبداع ؛ غير محكومة بقيود التقليد .
إن الاتباع في حد ذاته لا يعني التقليد المذموم ؛ فالاتباع سمة أصالة ومحافظة على القديم النافع الصالح للعصر مما ورثناه من العصور السابقة ، مع ظهور سمات العصر ، وخصائص الشخصية الذاتية ، ومحاولات الإبداع . والتقليد سمة ضعف وقصور ؛ لأنها تعني ـ فيما تعنيه ـ ضياع شخصية صاحبها ، واستسلامه التام لتفكير سابق ، وتكبيلا للموهبة عن الابتكار والتجديد .
والتفرد بأصالة الشخصية الشعرية لا تعني عزلة الكاتب عن تراث الإنسانية السابق له أو المعاصر ، فإن التفاعل بين النصوص عند الشاعر ـ كما يقول الدكتور حسني عبد الجليل ـ (( يمثل منطلقا للإبداع ؛ فإذا كانت الاتباعية بمعناها الواسع تعني انطلاق المبدع من عالم له تقاليده وأصوله وأنماطه ونماذجه ، فإن الإطار الذي ينتظم عملية الإبداع ليس إطارا فارغا من المحتوى ، بل هو إطار ذو محتوى )) ( البديع في شعر الخنساء : 9 ) .
والواقع أنه (( لن يضير كاتبا ـ مهما تكن عبقريته ، ومهما سما فنه ـ أن يتأثر بإنتاج الآخرين ، ويستخلصه لنفسه ، ليخرج منه إنتاجا منطبعا بطابعه ، متسما بمواهبه . فلكل فكرة ذات قيمة في العالم المتمدين جذورها في تاريخ الفكر الإنساني الذي هو ميراث الناس عامة ، وتراث ذوي المواهب منهم بصفة خاصة ، ويقول بول فاليري Paul Valery في كتابه choses Vues : ” لا شيء أدعى إلى إبراز أصالة الكاتب وشخصيته من أن يتغذى بآراء الآخرين ، فما الليث إلا عدة خراف مهضومة ” )) الأدب المقارن للدكتور محمد غنيمي هلال : 23 . ولذلك يقرر الدكتور مصطفى سويف (( أن عملية الإبداع يوجهها الإطار ، وقد يقال : إن في هذا القول قضاء على جوهر الإبداع من حيث إنه الخلق على غير مثال ، ولكن هذا الاعتراض يحمل بعض الخطأ ، فإن الإطار من حيث هو كلٌّ منظمٌ يخضع لظروف الشخصية المختلفة ؛ بحيث لا يمكن أن يكون الإطار الذي أحمله أنا مطابقا تماما للإطار الذي تحمله أنت ، … فالشخصية على الدوام لها مميزاتها الخاصة … )) ( الأسس الفنية للإبداع الفني في الشعر خاصة : 176 ) .
إن الشاعر الذي يريد أن يعيش عصره بقلبه وفنه هو الذي يظل يبحث عن الجديد ، ولا يكل عن الطموح إلى التميز ، حتى وإن كان أكبر من قدراته الفطرية ، أو أوسع من حدود موهبته . وهذا الشعور المتوثب في حد ذاته يقود إلى محاولة التجديد ، مهما كانت قيمتها التاريخية والفنية .
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.